كل شعوب الدنيا تمارس العادة ذاتها حتى لتظنها القاسم المشترك بين بني البشر، أنها الشكوى من كل شيء : من سوء الأحوال المعيشية، من انقطاع التيار الكهربائي، من ارتفاع أسعار الأدوية، من مستوى مدرسي أبنائهم، من جيرانهم، من زحمة السير، أتذكر صديقتي التي تقطن ( ..... ) فما من مرة اتصلت بها إلا وكانت تعبر أحد طرقات مدينتها المكتظة بالسيارات، فما أن أسألها حتى تنهال حنقاً على الزحام والطرقات والمرور والناس التي لا تعرف استخدام الطريق والسائقين الذين بلا ذوق و.... ومثل صديقتي كثيرون وكثيرات يفضلون عبور التفاصيل اليومية بالمزيد من الشكوى التي هي أضعف الإيمان وأرخص البدائل الممكنة حين لا يكون بيدنا غير ذلك وحين يكون تغيير الواقع شيئاً من المستحيلات القصوى كالغول والعنقاء والخل الوفي على حد سواء !!
قضيت الأيام الفائتة في لبنان، وهو بلد يعج بالمتناقضات ودواعي الشكوى، فالطرقات ليست على ما يرام دائماً، فهي إما محولة لأغراض الإشغال والتصليحات، أو مقطوعة لدواع أمنية أو مهملة لأسباب طائفية أما الكهرباء فعبء اجتماعي ومأزق يومي يعيشه اللبناني على حسابه الخاص، أما الأشكالات اليومية بين المجموعة الدينية الفلانية والجماعة الحزبية العلانية ففتيل يؤرق الجميع بلا استثناء وقميص عثمان الجاهز ليرفع في أية لحظة لينفجر بلد يعيش على برميل بارود أزلي، متناقضات لبنان صنعت لبنان، وكونته وهي اليوم تتحكم بسلمه وحربه وقوت أبنائه ومستقبل شبابه، وبدونها لا يكون لبنان أبدا.
قلت إن لبنان لا يمكن أن ينتقل للضفة الأخرى حيث السلام والاستقرار والتصالح، وحيث تختفي الحفر من الشوارع والسلاح من المخيمات والشتائم من الخطب ومحطات التلفزيون إلا بالعلمانية، فكان الجواب اللبناني: ربما يحدث ذلك بعد ألفي عام، وكأننا عدنا إلى مربع الصفر، فلبنان بدون طائفية أسطورة تشبه المستحيلات الثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي، لكن هذه الواقعية ليست من قبيل الشكوى بقدر ماهي من باب العلم ببواطن لبنان على وجه الدقة واليقين.
في لبنان يعرف اللبناني كيف ينتصر على كل الظروف والمنغصات ليعيش كما يجب، فلقد انتصر على حرب عبثية ذبحت لبنان من الوريد إلى الوريد، هجرت شبابه إلى منافي العالم، وأودت باقتصاده وقيمة عملته، وخلفت دماراً لم يعالج حتى اليوم في بناه التحتية وفي نفسيات الناس ومستوى معيشتهم، مع كل ذلك فهذا اللبناني يصحو كل يوم ليقول صباح الخير وليصر على حقه الإنساني في التمتع بصبحية رائقة، وفنجان قهوة زكي الرائحة، إنه إصرار الراغب في الحياة والذي تعلم أن قليلا من الشكوى لا يضر ، ولا يصلح شيئاً بقدر ما ينفس احتقاناته لا أكثر ولا أقل !!
وبالرغم من كل ذلك فاللبناني الذي يشكو واقعه كل لحظة كأي مواطن عربي، لا يشكو من لبنان الوطن أو لبنان الأرض، أنه غالبا ما يشكو من كل الذين يؤذون لبنان، ويسيئون إليه ، فلبنان بلد المياه كيف تكون فاتورة المياه فيه بهذا الغلاء ؟ ولبنان بلد الخيرات الزراعية كيف ترتفع أسعار منتجاته بلا منطق، ولبنان رفيق السهر وابن الاخضرار كيف تحترق غاباته عشوائيا كل صيف مثلا، ولبنان الذي علم العالم الأبجدية كيف ينهار نظام التعليم فيه و... ؟؟؟


ayya-222@hotmail.com