هل هي حقاً رائحة، أم بقايا صور استبدلت اللون بالرائحة، فراحت النفس تتبع الخطوات الهائلة الفظيعة التي استقرت في الذهن لترسل إشعاعاتها الهائلة، والمزلزلة، كلما اقترب الإنسان من المكان الذي كان فيه والذي ارتبط بأزقته بعلاقة أشبه بالنجمة الواقفة عند حافة الجبين، فلا تزيح عنك بريقها ولا تنزاح أنت عن سبيلها.
المكان الذي كنت فيه، فقد لم يكن يعنيك شيئاً وأنت في زمانك، لكن اليوم هناك الجاذبية الأرضية التي تخرج من بين شقوق الجدران المتهالكة تبث رائحة أقرب إلى رائحة الطفولة وتصدر صريراً يدنو كثيراً من هدهدة الليالي الملاح، يوم كنت ترتع بأظافر الينوع، وصبوة اليفوع تتسلق الجدران لأجل اختطاف نمرة الحياة، وعيناك معلقتان نحو زاوية في البيت المجاور خشية الفزع والهلع الذي قد يقض مضجع من يسمعون خرفشة الأغصان وهي تشاغب ساقيك الصغيرتين.
عندما نكبر يستولي على أرواحنا الحنين، فنصحو مستلبين ونستلقي قبل النوم مهيضين، لأن الطفولة التي كانت أصبحت الآن على الشاطئ الآخر من عقود زمنية غبرت وصارت السفينة المقلة لبقايا كائن يبحث عن وجوده بين أضلاع متهاوية عند مرفأ آخر وما بين الطفولة والكهولة طريق يمتد لسنوات وكبوات وهفوات ونكبات وأحياناً بض الخيوط الضوئية التي ترتاد الصدر فتشعله بالوميض.
إذاً فالمعنى في الزمن وليس في المكان، نبحث عن مكاننا لأنه يكمن فيه زماننا وعمرنا وسؤالنا الوجودي الذي كان أكبر بكثير من إصبع الإبهام. اليوم نستدرج التفاصيل في الزمن ثم نعلقها على أدراج المكان، ونستلذ بقراءة الجملة تلو الجملة، لأنها كانت مرتبطة بالعمر، بالطفولة الزاهية وأيام العمر الحالمة بغد مشرق وصدف لا تقلق ولا تغلق النوافذ في الوجه ثم يحتل الطريق إلى أشواك وأشواق مبثورة. فعندما نخرج من المكان فارين من قلقه، باحثين عن مكامن الفرح لا نفكر كيف سيكون اللون وكيف ستكون الرائحة، ولكن بعد الرسو عند مخدع الأيام الأخيرة يباغتها الحنين إلى الرائحة القديمة فنسأل عن المكان نسأله عن أهل المكان وربما بعضهم فارق دنيانا، وربما بعضهم أقعده العجز الجسدي، فالتزم صمته الأبدي فشعر بأنه لا جدوى من السؤال غير الانتماء فوراً إلى كسر علامات الاستفهام والاستغناء عن قوسها المريب والعجيب، والاستعانة بدمعة تطهر الصدر، وآهة تنفخ في الرئة أوكسجيناً نقياً لعل وعسى تنقشع سحابة سوداوية أطاحت بالمعنى والمغزى.
الحنين إلى المكان هو استعداد مبطن باللجوء إلى قوة المشاعر كوسيلة للبقاء، حتى وإن استسلم الجسد لعواهن ومحن، واحتدمت مفاصله بالأنين، وانسحب النظر، وباقي الحواس ترفع الراية البيضاء مخذولة معلولة.
الحنين إلى المكان دعوة للتشافي من غبن الجسد وانكساره.


marafea@emi.ae