كان رجلاً “هاب ريح”، كما يطلق على الرجال ذوي الفزعة، الملبين والموجودين عند الطلب وعند “حزتها” أي الشدائد، لا يقام عرس إلا وتجده مساهماً فيه، ومعاوناً، يحطب مع أهل المعرس، ويسخّر سيارته للتنقلات يوم الفرح، تظل “البنديرة” ترفرف على سيارته حتى انقضاء الفرح، يجول في العرضة والعيالة، ويطلق رصاص محزمه حينما كان الرصاص مسموحاً به في الأعراس، ومثلما الفرح كان الرجل موجوداً في حزن الناس، فإن توفي شخص تجده من المشيعين الدافنين، ويلزم بيت أهل المصاب، فربما يحتاجون لشيء، تجده في ختان الأولاد موجوداً، في طلوع وأسبوع الأطفال موجوداً، في الولادات موجوداً، في الحرائق والأمطار والنزاعات موجوداً، ليلة شوي عيد الأضحى موجوداً، في وداع واستقبال الحجاج موجوداً، لا يحب أن يستفقده الناس. مرّة .. كان الرجل منطلقاً بسيارته، فرأى ألسنة نار ولهب ترتفع في منطقة سكنية قريبة، وكاد أن يترك ما في يديه ويساهم بأقصى سرعة في إخماد النار، ولم يتأكد فعلياً من الاشتعال، فأسرع بإخبار المطافئ عن وجود ذلك الحريق، وخوفه من أن يصل للبيوت، ذهب مسرعاً وأنجز عمله بعد أن وصف للمطافئ مكان الحريق، وعاد ليساعد فوجد سيارات المطافئ، لكنه لم يجد الحريق غير حريق الإطارات وبعض المخلفات قام به أطفال مشاغبون، فتوقف وأخبرهم عن ظنه بالحريق وخوفه على البيوت لتفادي الخسائر في الحال والمال، لكن ظنه كان خاطئاً، لم يغفروا له هذا الخطأ، وسجلّ ضده بلاغ بإزعاج السلطات، وتحريك سيارات الإطفاء، ووقعّوه على أوراق، ذلك اليوم عاد “هاب الريح” منكسر الخاطر، منقبض القلب، لأن أشياء كثيرة ماتت في ذلك اليوم في صدره!? رجل آخر من “إخوان شما” جاءه مرة مطارد اشتبك مع رجال من بني عمه لنزاع على أرض، وتم جر السلاح دون استعماله، فـ”زبن” أحدهم ملتجئاً عند “أخو شما” دخل بيته راد الشأن فيه، فرحب به ريثما يتم إصلاح ذات البين بين بني العمومة، حيث تكون كلمة الرجال وأعرافهم هي القاضية، بعد ساعات حوطت بيته سيارات الشرطة، طالبين منه أن يسلم “زبينه” فرفض الرجل، ولو كان هو البديل والضامن أو كان ولده مكاناً له، ورهينة عنه، سداداً برقبته وبحاله وماله وأولاده، لم تحترم مكانة الرجل الشهم من”إخوان شما” ولا قدروا مكانته الاجتماعية، اقتيد ضيفه - زبينه - أمام عينيه دون أن يقدر على فعل شيء، يومها.. احترق قلب الرجل واشتعل رأسه، وكاد أن يفقد بصره، لأن اسمه وشرفه وكلمته وئدت عند عتبة باب بيته.? مثل هؤلاء الرجال كان مجتمعنا القديم مليئاً بهم، وكانوا هم زينته، اليوم هم في تلاش وغياب في مدينة كبرت وتغيرت، أحياناً نتحسر على أيامهم الجميلة، وأحياناً أخرى نقول: لا الزمن زمنهم، ولا الوقت يقبل بهم!



amood8@yahoo.com