يرمي البحار شباكه في الغموض الكوني موقنا بأن الحقيقة التي تنام في الاعماق لا تكشف عن نفسها الا لمن خبر الصبر في ذاته وادرك بعد ان خاض في اللجج ان الحياة انقلاب دائم في كل شيء، حيث لا تدوم الموجة، ومهما اشتد ارتفاعها لا بد لها ان تتكسر يوما. وان القمر لا يظل مكتملا طالما هو حي. وان التغيّر صفة كل نبع عندما تقترب منه الافواه العطشى لرتوي من جفاف رحلتها للحظات، لكنها تعود وتعطش كلما ابتعدت في مصيرها نحو النهايات المجنونة. وقد يغويها السراب للخوض في دروب مهلكة. وقد تموت وهي تعوي من شدة الشوق الى الماء. والماء في الاصل هو وطن كل الاحياء. ومثل الموجة، تتكسر عند البشر كل الافكار والقناعات التي تتغير كلما اصطدم صاحبها بجدار النهاية، حيث يضطر الى العودة او القفز او البقاء اسيرا في رقعة الانتظار. وهكذا الاحوال والافكار تتغير دائما وتختلط في النهاية بالزبد والرمل. ومن يقرأ كتاب الماء، وهم قلة، يدرك ان المد والجزر يكتملان في اصلهما الواحد ليشكلان حالة البحر او حالة الحياة. يفرد الطائر جناحيه في الريح طالما هي ساكنة، لكنه في العاصفة يلجأ للكهوف، وقد يحتمي بالصخرة الغريبة التي تنام تحتها الافعى. والبشر عندما تراودهم احلام القوة يفتعلون العواصف ويأججون النار من مخبئها لترتفع في عتمة الخوف. وعندها يذهبون الى اصطياد النسور الجريحة في المنحدرات، ويعيدون بناء الجدران خوفا من عواصف المستقبل. ذلك لأنهم يهابون التغيير الذي يهدد حصونهم، غير منتبهين الى ان الحصون تتفتت هي الاخرى وتصبح رمزا للتلاشي ومجرد ذكريات خربة للمجد الذي لا يدوم لبشر. الفراشات البيضاء تذهب اسرابا وجماعات مجذوبة الى زهرة النار، تذوي وتذبل اجنحتها الشفافة وهي ترتوي من الرحيق المر املا في ابتداع عسل جديد للمجروحين عشاق الامل البعيد. وفي كل مرة تنتصر النار لان الآخرين يهاجمونها بالعصي والالواح المكسورة، وسيظل البشر هكذا الى ان يبزغ في فجر هؤلاء رجل الماء الذي يحمل الصفاء في قلبه ويؤمن بقانون النبع واحترام التيار وانتظار ساعة المطر، وهو الذي يؤمن بان الانتصار الحقيقي يكمن في فهم توازن الاشياء في هذا الكون الفسيح، وان الماء والنار ضروريان كلاهما لاستمرار الحياة. قد تتأرجح السفن الكبيرة في عواصف الغدر، لكنها لا تغرق ابدا. وقد تتكسر اغصان الاشجار الكبيرة في زلازل الايام، لكن جذوعها الصلبة تتحول الى رمز للصمود. وقد يهيج البحر ويزبد ويزأر، لكن طبيعته الناعمة تعود لتعطي الوجود مسحة من الجمال والروعة. رسمت اسمك في كتاب الماء وانطلقنا لا تهمنا العواصف ولا تثنينا نداءات الغرقى فوق سواحل الخوف الشمس البعيدة تشدنا بخيوط الذهب الريح تدفعنا، والنوارس فوقنا اغنية بيضاء.. akhozam@yahoo.com