من طبيعة الأشياء أنها إن لم تتجدد في داخلها فإنها تشيخ ثم تذهب إلى العدم، ليأتي من ثنايا العدم ما يؤسس كياناً جديداً مختلفاً جذرياً عن سابقه، وقد يكون الأحسن وقد يكون الأسوأ، ولكن الثابت في الحياة هو التغير والتجدد والتحول والتبدل.
وقد قال الرواقيون الأوائل إن الإنسان جزء لا يتجزأ من الكواكب العظمى في هذا الكون، وهذه الكواكب تتساقط بالقدم وتتجدد وتنتج عنها تكوينات جديدة لتأخذ على عاتقها استمرار الوجود. ونحن في زمن ما أطلق عليه الربيع العربي، نقع في خضم المخاض لإنتاج وجه سياسي واقتصادي وثقافي جديد لا يكابد ما كابده في سابق العهد، يوم انقطع الود ما بين الأنظمة العسكرية والشعوب وصار الرد أعنف من الصد وأشرس مما كان يتصوره أعتى الأنظمة العسكرية في العالم وأشدها فتكاً وهتكاً وتجاسراً على إرادة الإنسان وحقوق الأوطان. فمثلاً العقيد القذافي لم يزل يتصور أن الدورة الدموية للكون ثابتة، وأن المجرى المائي الذي سده بأسوار العزيزية لن يخترق الأسوار ولن يساير الأطوار، بل لم تزل العمامة شامخة على رأس الزعيم، رغم تدهور علاقته بالمكان، ونفور الزمان من الكتاب الأخضر وشعور كل من يتابع أن نهاية الزعيم قد قربت. ولكن بعد هنيهة من إعلان الانتصار وتحرير طرابلس العاصمة من كتائب القذافي طلب المجلس الانتقالي من المسلحين الذين جاؤوا من خارج طرابلس الرحيل عنها فوراً بعد انتهاء مهمتهم.
ما يثار من أسئلة لماذا يريد المجلس الانتقالي إخراج المسلحين من طرابلس؟ ولماذا يصر هؤلاء على البقاء؟ فالدماء لم تبرد بعد، والتجربة، أعني تجربة التغيير لم تزل في بدايتها، وعيون الآخر مبحلقة باتجاه ما يجري هناك على أرض ليبيا. المهم في الأمر، وما نريده ونتمناه أن يستفيد الثوار من تجارب الآخرين الفاشلة والناجحة، وأن يتحدوا بإرادة القوة التي تحدث عنها فلاسفة القرن التاسع عشر ويخرجوا أنفسهم من شرنقة الإحساس بالقوة قبل أن تنهار القوة ويعيدوا تجربة أفغانستان.
شعب ليبيا وثوارها قادرون على خوض التجربة بنجاح إن أرادوا أن يحققوا الأهداف التي رفعوا شعاراتها وتحملوا من أجلها الضيم والظلم. المهم أن يؤمن الجميع بأن جدلية التغيير تفرض على الجميع الانتهاء من ربقة الانتقام و “هيصة” الخصام، وزوابع الصراع على الغنيمة بعد أن ينفض السامر، ويبطل سحر الساحر، وتصبح ليبيا بلا “شبيحة” ولا كتائب، ولا لجان شعبية، ولا نظريات ولا ملك بلا ملكية. ما نتمناه أن يخرج الجميع من الجدل ليدخلوا جدلية التغيير الحقيقية التي لا يراد بها أشخاص، وإنما مصلحة أوطان وحقوق إنسان تحتاج إلى تأثيث جديد وترتيب يتلاءم مع طبيعة الزمن الذي نحن فيه، نحتاج إلى مزيد من العقلانية ولا نحتاج إلى العدوانية التي تعنف وتخرف وتجفف منابع العطاء الإنساني الذي من المفترض أن تكون الثورات قامت من أجله.


marafea@emi.ae