يتجلى ولع الوشاحين الأندلسيين بالمزج اللغوي في خرجات قصائدهم بين العربية والقشتالية، أي الإسبانية القديمة، فالأعمى التطيلي يكمل الموشحة التي ذكرنا فقراتها الأولى قائلا: “يا من قتل الريم بتقتيره ومن فتن الحوار بتصويره ومن زاغت الأبصار من نوره هواك هو التشويق ما عشت لا بحتُ به دهري، لا بحتُ” ونلاحظ أن أسلوب النداء يضفي على لغة الشعر جلالا يقارب ما نعهده في المقامات الصوفية، لكنه هنا يخاطب معشوقته التي صرعت صغار الغزلان بنظرة عينيها الساحرة، وفتنت الحور العين في الجنان عندما تمثلت لهم بجمال صورتها حتى زاغت الأبصار، على أن المخاطب يمكن صرفه إلى المذكر أو المؤنث دون أن يختلف الأمر، غير أن هناك ظلالا إشراقية تمتزج بلغة الغزل هنا، كما أن الشعر الصوفي الخالص كثيرا ما يألف مفردات العشق، والطريف هنا أنه يمضي في لمس هذا الجانب الحساس عندما يصف هواه بأنه هو “التشريق”؛ أي ينتسب إلى أيام التشريق الثلاثة التي تعقب يوم النحر في عيد الأضحى، وتفعم بالدعوات والتكبيرات الجهيرة في الصلاة. وهذه نسبة غريبة يضفي بها الشاعر على حبه مسحة مقدسة، وكأنه يدرك تجاوزه للحد في التصريح بما لا ينبغي البوح به، فلا يلبث أن يعقبه بتكرار جملة “لا بحت به دهري، لا بحت” هذا التكرار الذي لا يقوم بوظيفة القافية فحسب، بل يبرز أهمية عدم التصريح في الأدبيات الصوفية. وربما كان معنى التشريق هنا ينصرف إلى الاتجاه إلى المشرق الذي ظل بالنسبة للأندلسيين والمغاربة قبلتهم التي ينبثق منها النور وتتجه إليها الأبصار، وفي كلتا الحالتين نرى التعبير يلامس هذا الإيحاء الديني بشكل ما. ثم يقول الوشاح في القفل، وهو المقطع الخامس المزدوج لغويا: “يا أملح خلق الله أركانا مذ بلغت فؤاد الصب قد بانا يبكى أسفا للبين حيرانا دي كومو ذا “الغيبة” نن تو ودي لوش ذا “العاشقة” سن تو” لاحظ وصف ملاحة المحبوب بأنها تتمثل في “أركانه” وليست القافية هي التي اضطرت الشاعر لاستخدام هذه الكلمة، بل هي لمسة امتزاج لغة التصوف بالعشق، فمنذ أن بان الحبيب غاب الصب وفؤاده، وظل يبكي أسفا حيران على الفراق، ثم يأتي الشطران الأعجميان، وفيهما كلمتان عربيتان، ليصبح المعنى: “قل كيف كانت الغيبة بدونك آه لعين العاشق إن لم تكن أنت” وما أود أن ألفت النظر إليه هو حرص الشاعر على أن يقيم بالكلمات الإسبانية قافية القفل العربية، أي يختم الكلمات بتاء مضمومة كي تتوافق مع “عشتُ” و”بحتُ” بل إنه كان يختار قافيته منذ البداية كي تتوافق العربية مع الأغنية الإسبانية المتداولة. drsalahfadl@gmail.com