لم نحفل قط بأديب، ولم نسطر يوماً مكانة لأحدهم كالتي سطرها التاريخ.. وقد تعددت أصوات الأدباء عبر العصور، وربما كتمت أصوات بعضهم، أو لم نعرف بمنجزهم الثمين بما يكفي، ولم نبث عطاءهم الفكري في روح الأجيال، ولم نمجد مكانتهم ولو على سبيل المعرفة والدلالة، ولم نعد نستحضر تاريخهم المشرق ولا سير حياتهم فكيف نستشرف الحاضر والقادم من القامات الأدبية؟ إنها مأساة الوطن العربي الكبير الذي أخفق في حمل الأمانة الأدبية، ومأساة المؤسسة الأدبية والفكرية التي تلمّع من تريد، وهي قضية المؤسسة التعليمية التي بات التعليم فيها معضلة، ولا ننسى المنظومة الإعلامية والثقافية التي أوهمت المتلقي وخدرت ثقافته.. كلها مؤسسات نأت بمجالها عن الجذور الثقافية العربية المشرقة على مر التاريخ. بل وجهت ما يكفي من الطمس وأتت بثقافة الآخر وغرست ولا زالت تغرس الأدب الدخيل، وتعاملت مع الثقافة العربية على أنها ثقافة هامشية، واعتبرت دلالاتها الجميلة والخالدة مجرد بانوراما عابرة، وكزنها بهذا الفعل تود أن تفصح بإدراك فعلي عن أن الثقافة والأدب العربي لا يمكن إبرازه من خلال محيطه، وإنه يقع ضمن سياق الثقافة الآفلة التي تستحق الاحتفاء بذكراها ليس إلا. والغريب إننا لم نعد نحتفل بذكرى الأموات من الأدباء والكتاب، وغيّبنا ذكراهم وأهميتهم، وتوقفنا عن النبش عن أعلام الثقافة وحملة الأقلام من مفكرين وأصحاب رأي، فتمر ذكرى هؤلاء كما تمر أطياف أحياءهم، تتوازى أيضا بما نختلق لهم من مساحة ضيقة، وهي في اعتقادي مساحة جوفاء لا تحمل من المعاني شيئا، ولأن الزمن الآن ليس هو زمن الفكر والإبداع، وليس كل ما يحصد من قيم ثقافية لا يمتلك أي مكانة في بث روح الحياة، فإن اختلال هذه الموازين كفيلة بطمس ما تبقى من موروث ثقافي يعتبر ضمن سياق التلميح لا أكثر. وبما أن المؤسسات الثقافية العربية المختلفة باتت في قارب الفشل، وبالتأكيد فإنها عملت حسب أجندتها الخاصة والمفعمة بالتوجيه على حساب الثقافة العامة، فهل نأمل من الثورة التكنولوجية أن تنقل الحالة الثقافية من الكمون إلى الحضور، وأن تظهر ما حبس، وأن تخلق مساحة شاسعة للمنتج العربي وتعميده في الثقافة العالمية؟ إن ثقافتنا العربية وكل ثقافات الشعوب المماثلة المغيبة، هي بمسيس الحاجة إلى تكنولوجية حديثة تفك القيود الواقعة عليها، وهي بحاجة أن تظهرها إلى العالم من حولها، وكما حدث على صعد أخرى كان للتكنولوجيا فضل فيها، فإنه يمكن على الصعيد الثقافي أن التكنولوجيا أيضاً هي الرافعة التي تنهض بها وعبرها قامات وأصوات ظل الزمن يمحوها من الذاكرة. إن المؤسسات الثقافية التي تبدو لامعة من الخارج، هي من الداخل حطام واضح، وبالتالي فإن عليها أن تخرج من ذاكرة الشعوب، وان تغادر الذاكرة الثقافية، لأن فبركتها قد انتهت.