عندما تجد رجلاً بسحنته السمراء وقد افترش حصيراً على يابسة الأديم، ومدد جسداً متهالكاً من أثر الكد ولسعات سياط الشمس الحارقة، تحاول أن تستدعي الذاكرة وتستدرج بعض تفاصيلها ولعلَّ الذكرى تنفع المؤمنين.. هذا الرجل الذي قطع أميالاً وخطوات بعدد نبضات قلبه، وجاء لكي يستجير من فقر وقهر، وبعض ما عفرته السنون في صدره وما صيرته الأيام في قلبه، نتذكر مراحل ما قبل الاستفاقة من اللظى، نتذكر ذاك الرجل الأسمر الناحل وهو “يرونح” السواحل بساعدين “معروقتين” ناصباً شباكه في “تراثب” الماء، منتظراً الرزق الحلال أن يأتي ومعه تأتي الفرحة وابتسامة أم العيال .. نتذكر ما بين زمن وزمن رجلين أحدهما غاب ربما تبع الحقيقة وربما توارى فقط، ليقف شاهداً على مرحلة هي ليست مرحلته.. والآخر الآن رجل المرحلة والمواقف يصطف في طوابير الحياة المختلفة ويزاحم ويداهم من أجل لقمة العيش، وإثبات الوجود وتحقيق ما تتمناه الأسرة البعيدة في البلاد الغاربة خلف الأفق .. تتذكر وتتحسر وتفكر في هذا التحول الذي تطاول على كثير من القيم وكثير من الشيم وأطاح بكثير من الهمم.. فابن الصياد أو حفيده، يستمرآن اليابسة، وهي مزخرفة بالرفاهية وأحلامها الزاهية ويمقتان ماء الجسد ورائحته لأنه من نفايات زمن لا يريدان الالتفات نحوه خشية أن تتسخ الدشداشة البيضاء، ومن “البرستيج” لا بد أن تكون ناصعة إلى حد الكسل المريع. أبحث عن سر الورطة، أسأل عن سبب يفتح نافذة لحل معضلات كثيرة تزاحمت وما انفكت تتراكم أجزاؤها وتهبط على القلب كأنها الطير الأبابيل، فتخطف القلب واللب، وأبحث عن معنى لهذا التحمل الحديدي الجبار لكائن يبدو لي خرافياً، عندما أرى جسده الناحل، يصفع لهيب الشمس قبل أن يداهمه ثم ينام قرير العين هانئاً، فلا قلق ولا أرق، ولا شرود حدق، بل إنه يكمن على خاصرة الوجود كأنه وحش متربص في انتظار عودة الحافلة التي تنقله إلى مثواه الليلي ليقطع مسافة أخرى مع الزمن بين الأصدقاء، فقد يشاهد فيلم فيديو أو يلعب الورق أو يستلقي على عموده الفقري مستمعاً لأغنية طويلة تذكره بالحبيبة والأزقة الضيقة والبيوت الضيقة ورائحة زمن يقضي ولا ينقضي مهيمناً على الروح مستولياً على الذاكرة. بينما من غادر كل المحطات وسكن في الطابق الأخير من الذاكرة لم يعد يتذكر شيئاً ولا يفكر إلا في “بلاكبيري” و”بلاي ستيشن”، وما بينهما من خفقات وأنات، وهنّات واختراقات للضمير، واحتراقات للقلب الصغير.. لن يتذكر لأنه لا توجد من تفاصيل تستفز الذاكرة وتضيء فناء الرأس كي يتذكر. جيل أسس ومضى.. وجيل ينتظر من يؤثث ذاكرته بنبيل الأفعال. علي أبو الريش | marafea@emi.ae