اللّغةُ، كالناطقين بها، تتقدّم إذا تقدّموا، وتتخلّف إذا تخلّفوا، وتزدهر وتنضُر إذا ازدهروا ونَضُرُوا. وليس ينبغي أن يقع اللّومُ على آلةٍ لسانيّة نحن الذين يتحكّمون فيها، ويعالجون عجْنَها، فإن وقع التقصيرُ فهو منّا، وليس منها، فنحن الْمُلِيمُون، لا هي. لقد كانت اللّغةُ العربيّةُ هي اللّغةَ العالميّةَ الأولى، فكان المثقفون اللاّتينيّون، في القرون الخالية، يحاولون التفاصُح بها في أحاديثهم، لكنها انحطّت حين انحطّ العربُ وتقلّص وجودهم من العالم القديم الذي كانوا أسسوا فيه دُولاً، وانعدمتْ من طموحهم روح المغامرة فانزَوَوْا في ديارهم التي لم تلبث الدول الأوروبيّة أن جاءت إليهم فاستعمرتْهم فيها، وجرّدتهم من سيادتهم قبل أن يصبحوا مستقلّين على هون ما، لأنّ الذي لا ينتج حضارة لا يمكن أن يكون حرّاً مستقلاًّ في قراراته... وجاء هذا العصر الذي طغى فيه الإعلام والفضائيات بفعْل التطوّر المذهل الذي انتهى إليه أهلُ الغرب بما تعلّموا وبحثوا أمام تفرّجنا عليهم، ويأسنا من عبقريّتنا؛ فكان الإعلاميّون يصطنعون، أوّلَ مرّةٍ، لغةً عربيّة نقيّة، يبثّون من خلالها جمال العربيّة ونَضارتَها، ولكنْ وشيئاً فشيئاً، استنامَ الإعلاميّون، في كثير من الأوطان في فضائياتهم، إلى العاميّة المنحطّة، ولم يجتزئوا بذلك حتّى أمسَوْا يترجمون المسلسلات الأجنبيّة التي يتابعها عشرات الملايين من المشاهدين إلى اللهجات المحلّيّة، وكأنّ كلّ قطر عربيّ أمسَى يتعصّب لعامّيّته ويمكّن لها حتّى تَتَحصحَصَ في فضائيّاته، لتزداد الفرقة والتباعد، ومن ثَمَّ لتزدادَ العربيّةُ قصوراً وعجْزاً، ولا أحدَ يفكّر في تطويرها، ولا في تنضير وجهها، ولا في جعْلها لغةَ العلوم والتَّقانة كما كانتْ... إنّ الصعوبة الأولى التي لا تجعل اللّغة العربيّة تستعيد نضارتَها العلميّة على عهدنا هذا هي أنّها ليست لغة قطر عربيّ واحدٍ، ولكنّها لغة اثنين وعشرين قطراً، مما يستوجب إلغاءَ كلِّ مجامع اللّغة العربيّة المحلّيّة لأنّها لا تكرّس إلاّ القطيعة اللّغويّة، وتأسيسَ مَجْمعٍ للغة العربيّة يتكوّن من نُحاةٍ ومعجميّين ولسانِيّاتِيّين، وعلماء آخرين، ويشرعون في العمل من الصفر... وأوّل ما يفعلونه: أن يجيبوا عن اعتراضات أعداء اللّغة العربيّة الذين يزعمون أنّها لغة عاجزة، ولا يجوز لها أن ترقَى إلى مستوى اللغات الغربيّة بالفعل والبرهنة العمليّة، لا بمجرّد الْخُطَب والكلام كما لا نزال نفعل الآن... ثمّ من بعد ذلك يضعون مخطّطاً عربيّاً محدَّدا بالزمان بحيث لا يجاوز خمسة قرن على أقصى تقدير لتُمسيَ العربيّةُ لغةَ علمٍ ومخابرَ وابتكار... ولكنّ ذلك كلّه لا يتأتَّى إلاّ بمراجعة مناهج التعليم مراجعة جذريّة بحيث يتمّ إبعاد المظاهر المتخلّفة منها، حتّى لا نلقّن أبناءنا إلاّ ما يفيدهم في حياتهم، ويجعلهم يعيشون عصرهم كالألمان واليابانيين والأميركيين... كما علينا أن نكوّن المعلمين والأساتذة تكوينا عالياً قاسياً، ولْنشجّعْهم بمرتّبات تجنّبهم التسوّلَ والفقر، وهو ما يحدث لهم في كثير من الأقطار، ونستثني من ذلك دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، ومعها بعض دول الخليج العربيّ.