أعتقد أن الممارسة الأولى لحق الاختلاف، هي ما قمت به أيام التلمذة في الجامعة، داخل قسم اللغة العربية. وكان ذلك في عامي الدراسي الأول مع أستاذي يوسف خليف، وكان يقوم بتدريس شعر الصعاليك، وكان يقول لنا إن قصيدة لتأبط شرا منسوبة إليه خطأ لأنها من صنع حمّاد الراوية. وقد كان حمّاد وضّاعا مشهورا بدس القصائد التى ينتحلها ويجعلها باسم الشعراء الجاهليين كي تروج بضاعته. وقد قرأت القصيدة في المنزل مرات، وفي كل مرة كنت أتأكد أن معجمها جاهلي، وأن مسألة الوضع أو الانتحال لم تدخل عقلي، وذهبت إلى أستاذي يوسف خليف، وأعلنت له ما انتهيت إليه، وكنا في محاضرة فالتفت إليّ، معجبا بجرأتي، وقال: إذن أكتب بحثا أثبت فيها ما تقول. وبالفعل، قضيت أياما في المكتبة، أراجع مفردات وتراكيب قصائد الشعراء الجاهليين الموثقة، وأقارن بينها والقصيدة التي رآها أستاذي منحولة، وكتبت ما اعتقدته حينذاك من أنها قصائد جاهلية صرفة. الطريف أن يوسف خليف فرح بالبحث، وتنبأ لي أمام زملائي، أني، يوما، سأكون في موضعه كأستاذ، ومرت السنوات، وذكرني بذلك بعد أن وصلت إلى درجة الأستاذية، لكن المفارقة أنه لم يخبرني هل اقتنع برأيي أم لم يقتنع، وكانت هذه بداية اختلافي مع أساتذتي. أما المرة الثانية، فكانت في السنة الثانية مع عبد الحميد يونس، رحمه الله، وكان يقرأ معنا كتاب “الإيضاح” في علوم البلاغة للخطيب القزويني، واختلفت معه في تحديد أحد المفاهيم، ففعل ما فعله يوسف خليف، وعندما أنجزت المهمة، فعل ما فعله يوسف خليف بالضبط، ولم تكن هذه المرة الأخيرة معه، فقد امتد الأمر إلى أن وصل إلى ذروته أثناء إعدادي لدرجة الماجستير، حيث اكتشفت أن كتابه “الأسس الفنية للنقد الأدبي” هو تلخيص لأطروحات روبن كولنجوود في كتابه “مبادئ الفن” فلم أذكر كتاب أستاذي عبد الحميد يونس في مراجع أطروحة الماجستير، ووضعت، بدلا منه كتاب روبن كولنجوود، وفي الامتحان الشفوي الذي كان ينعقد قبل المناقشة، سألني لماذا لم أذكر كتابه ضمن المراجع رغم إفادتي من أفكاره، فأجبت في صلف مراهق: لأني ذكرت الأصل. فصدم الرجل، ولاذ بالصمت، ولم تمررها أستاذتي سهير القلماوي، وعاقبتنى عقابا قاسيا، لأننى رددت على أستاذ في صلف.. كانت مهمتها أن تخلصني منه إلى الأبد وقد نجحت في ذلك. أما في السنة الثالثة فكان الصدام الأكبر مع شوقي ضيف الذي ضاق بي ذرعا في البداية، وقرر أن يختبرني بأسئلته دون أن يبدي أي غضب، وكان لابد أن أكون عند مستوى التحدي، فوصلت الليل بالنهار، حتى لا أعجز عن الرد على أسئلته التي كانت تطاردني، وكانت مكافأتي أنه منحني الدرجة النهائية، وقدّمنى إلى أعضاء الجمعية الأدبية المصرية صلاح عبد الصبور وفاروق خورشيد وعبد الرحمن فهمي وعز الدين إسماعيل، فقد شجعهم حبهم المقرون بالاحترام والتقدير على أن لا أتردد في إعلان اختلافي، وأن أكون في مستوى مسؤولية الاختلاف.