يستلذ الزاهد بالعطش والجوع، ومن المرارة النابعة من أعماق الجفاف يروي ويغذي روحه الراغبة في التخلص من قيد الجسد والعودة إلى منبعها الأول في النور. والزهد ليس فضيلة مؤقتة يؤديها السالك لفترة محددة من النهار وكفى ، أنما هو طريق بلا نهاية يختار السائرون فيه المشي على الشوك والجمر والتعرض والتعرف على الأذى العابر الذي قد يدمي الأقدام الحافية مقابل الوصول إلى لحظات الكشف العالية التي تظل تتفتح كلما توغل الماشون في هذا الدرب المضني. وقد يتخذ الزهد اشكالا شتى ويتداخل في جميع تفاصيل حياتنا بمقادير وتفاوت، إلى درجة أن الجميع لا يلتفتون اليه. لكن الوعي بحالة الزهد وبدرجته عند هذا الشخص او ذاك يعد موضوعا معرفيا قد يفيد في قراءة سلوك البشر وفهم دوافع أفعالهم وأقوالهم. عند الشعراء مثلا، يمكن استنباط الملامح الزهدية في نصوص الكثير منهم. وعندما يصف الشاعر الحياة بانها مجرد لحظة عابرة فهو يعلن عن تخليه وعدم تعلقه بكل مغرياتها الدنيوية، وعندما يقول غيره إن ذهب الأرض كله لا يساوي حفنة من تراب الوطن البعيد فان ذلك يعد تعبيرا زهديا أيضاً، ويمكن القياس على هذا المنوال كثيرا لاستخراج مكامن التعبير التي يعلن فيها البشر استعدادهم للتخلي عن كل ما هو غالٍ مقابل الحصول على المعنى أو الوصول إليه. والحقيقة أن النفوس تستلذ بالتخلي والتخلص من الأحمال حتى لو كانت متعا، وكما يجد البخيل لذته في كنز الأموال وجمعها، فان غيره قد يفوقه في الشعور بالمتعة وهو ينفقها في سبيل المعنى الذي يؤمن به حتى لو أدى ذلك إلى هلاك ثروته وتبددها كلها. وقد تجد من الزهاد من يتبرع بخبزه وهو كل ما يملكه وتلك أيضا متعة عظيمة. وخارج الشعر، يزهد بعض البشر في الكلام وتكبر موسيقى الصمت في اعماقهم الى أن تصير ضجيجا يملأ الروح بالسكينة، وغيرهم قد يزهد في بصره فلا يعود راغبا في رؤية الا وجه من يحب وما عداه سدى. وثالث يزهد في سمعه فيختار أن يصم أذنيه عن العالم ويبدأ في سماع صوته الداخلي الخفي الخافت وهو صوت ضمير الحقيقة وصوت القلب الذي لا يرغب احد في الانصات له. هكذا يتلون البشر في زهد الحواس منقلبين في معاني الاضداد والناجي منهم هو الذي يقوده الزهد يوما إلى مكان تنتفي فيه الغشاوة ليرى بان الفروق مجرد وهم وان الشيء وضده مكملان للمعنى الواحد الذي لا يقبل أن يجزأ، وان حدث فان ذلك في الظاهر فقط. في تلك اللحظة، عندما يصل الزهد الى أقصاه في ذبول الجسد العاري الواقف أمام سؤال الحقيقة، قد لا يجد صاحبه الإجابة التي تختار أن تكشف نفسها لرجل عابر في حقل بعيد لكن قلبه عامر بمعاني الزهد كله. كنز الحياة الكلام وكل الكلام اسمك الذي لم انطقه بعد خوفا أن تولدين.. akhozam@yahoo.com