عندما تتسق في حضورها طرائف الترحال تثير أحياناً جمالية الوقت، فالمحن ترسمها ريشة ما أفرزها الطقس البارد على أنحاء عدة من أوربا، فما إن حزمت الحقائب حتى تلاحق الى الأذهان بيان موجات من الثلوج يغمر طريق رحلتنا الممتدة من سكون أرضنا المطمئنة بما وهبها الله. فالصعود الى المجهول لم يكن فقط بداية اللعبة الجميلة، بل مؤشراً ينبئ بما تحت الصفر، كان أشبه بالسحر يهادن ملابس شتوية قد نسيت تماما فما أعادها إلى أهميتها وضرورتها إلا السفر، قد تقي من البرد او لا تقي، إنما مدينة لندن توحي بخصوبة يتجلى الشتاء لها في كل الفصول، مساحة من منعطف التخوم المتكومة، أرضها توحي بأن الثلج قد مر من هنا قبيل الوصل بأيام معدودة. موجة البرد، تنعش أوصال الجسد، وزهوا على مر الشموع الليلية، ساهرة هي المدينة تحفل بالأعياد وترسم لوحات لها مذاق البرد وخصال الفرح. لندن تمد جسورا خفية مع عالمها الذي ينبني على نسق ديني مسيحي واجتماعي، مكللا ذلك بذاكرة الناس وثقافتهم. مثلما يرتبط بياض الثلج بالمسيحية وأعيادها على نسق بياض القلب. رائعة أخرى هي “لكسمبورغ” يغلفها لثلج، بل كما لو كان يدميها ويحيلها الى قطعة واحدة لا تعرف معالمها ولا قلاعها المتأهبة لزائر، تنكمش كحبة أرز، فمن فندق لندن المترهل الى آخر لا يليق بالجاذبية وينسجم مع عالم البشوات وكأنه يفضي إلى صندوق الموتى!. على مدار سريع وجميل، وصلنا خطفاً إلى أمستردام، وزائر الليل أشبه بخائن، ينتظر ذلك الصباح الجميل المقلد بزهو زهور الصحو. هنا مدى آخر لـ “فان كوخ” كأنه يسترسل في ريشته، فضلاً عن المطر هطلت الثلوج ورسمت لوحة العواقب الملتصقة بالمدن، فكان القطار وسيلة الأمان الذي ستقلنا عرباته إلى فرانكفورت بألمانيا. حمل حقائبنا الثقيلة يدمي القلب ثم تأتي مصيبة أخرى... يتعطل القطار السريع فجأة ويتوقف ما بين الحدود. السائق أبدى أسفه معتذراً عن إكمال “المشوار” طالباً منا الانتقال إلى قطار آخر. معاناة أخرى بانتظارنا في محطة “كولون” التي وجدنا وسط ثلوج لا تشي بغير صعوبة بل استحالة الاستمرار، فجرت إحالتنا الى قطار آخر لنقضي فيه زمناً ثقيلاً رغم أنه لم يزد عن خمس دقائق مربكة، أنستنا لقسوتها ثقل الحقائب والوقت. لم تكن محطة “فرنكفورت” أقل صعوبة رغم أنها بدت لنا كما لو أنها علبة حلوة مغلفة بالثلج والناس.. أو مثل دمى تود أن تطلق خطواتها سريعا الى الممرات. دمى معلقة على النوافذ المطلة على البياض... محطة المطار تعج بالمسافرين والطائرات جاثمة لا تتحرك، راضخة مستسلمة لأمر الجنرال: الثلج. لا شيء على قيد الحركة سوى الجرافات وآلات التنظيف، ما أفضى إلى تأجيل رحلتنا وضمها إلى رحلة أخرى خرجنا بها من هذه الرحلة العجيبة بشق الأنفس. بياض واسع فرش ملاءته على المشهد، وبدأ يزف إلى الفضاء كرنفال فرح. لون جديد يلف المروج الخضراء... تتعرى الأشجار منذ أوعز لها الزهو القادم بأن لديه ما تلبسه، وبدأ رونق الستائر الجليدية ينحدر من عنفوان الأمد المكتظ بسحر الحياة... وكأن الأرض تزف الى السماء بأكليل البياض وعناقيد الصفو.