لا يستطيع أن ينأى الحب بنفسه بعيداً، ليكون أسطورة وأمثولة؛ إلا بعد موت طرفي حدوثه، أو أحدهما على الأقل، سواء أكان في وقت سرد الوقائع ونسجها لهذا، أو بعد ذلك بألف عام. فما يعتري الحب من ظروف تُكوّن نواةً لعشق يأخذ مجرى المياه في حقول الزرع الجدباء، هو الذي يضع حجر الأساس لضريح مستقبلي، يصير رمزاً تزوره الأفكار والتأملات والحِكَم، كما يستمر مُفرِزاً وبلا كَللٍ لنوع من تعديلٍ في السلوك العاطفي لعامة المجتمع، ويشكل مبدأً أو نبراساً نتتبع ظله إيغالاً في عالمه أو نتتبع الظل حذراً منه. أهون ضريح للحب بناء كـ «تاج محل» اهداء من حبيب ملك لحبيبة ملكة، أو مرآة كمرآة «نرسيس» كما في الأسطورة اليونانية، ذلك الشخص الذي يعشق نفسه، ومشهور أننا نقول لمن يُفضل ذاته إلى حد عبادتها وإيثارها على من دونه بـ «النرجسي». ومن هنا تعدد الأضرحة، فأنواع الحب كثيرة، منها الإلهي والأمومي، والشبقي، والعذري، والوطني، إلى ما غير ذلك من أشكال تُبْنَى على طبيعة العلاقة بين الُمحب والمحبوب، وبالتالي تختلف الأضرحة كلما اختلف «النسق التعالقي» بين طرف وآخر. «الانتظار» في كثير من الأحيان يشكل طرفاً في علاقة بطلها «المُنتظِر»، مهما كان مَن أو ما ينتظره، ليصبح ضريحه بناءً متعدد الوجهات، مكانياً ونفسياً، وحتى سردياً، إذ إن «الانتظار» يبدأ ـ وعن طريق المشاهد المحايد- في حياكة وحَبْك مشهد خاص ومميز بإنتاج مكثف للصور، صور تقوم بمهمة تخزين جَيَشَان عاطفي بينها وبين المأمول، وتماماً كما حدث منذ أيام في أحداث «تونس» الأخيرة، فإن قيام اعتراض يأخذ ما يأخذ من مسميات؛ انتفاضة أو ثورة أو حركة تغيير، إلى آخره، يكون ضريح حُبٍ من توليفة أخرى. وقد يجعلنا ذلك ننتبه إلى أن الضريح ككلمة ليس إشارة لدفن آخر فيه فقط، بل هو بالأحرى والأولَى والأحق، إعلان عن مسيرة العلاقة بين طرفي حياة على اتفاقهما أو اختلافهما. لكن لُب الأمر، أن «الذكرى» و«الذكريات» هي الضريح المشترك بين جميع تجليات الحب السابقة كما غيرها، لأن «التذكر» هو الجامع لكل ما دونه، لذلك مثلاً هناك أعياد ميلاد وتقديس عاطفي أو ديني أو سياسي لأماكن، واحتفاظ بهدايا وصور، وارتعاشات وجودية بالرفض أو الانتماء لمجرد تذكر اسم محبوب أو مكروه. إنما وكما سلف، فإن أهون ضريح للحب هو ما نراه كنتيجة لقصة أنجبته الآن، وهذا شيء مرتبط بأن ما حَدَثَ حَدَثْ، أما ما لم يحدث بعد فهو الأجمل، وهذه صفة الحِراك المستقبلي، وبطبيعة الحال، يتحيز كل قصور معرفي للأجمل كما يراه، وهنا بإمكاننا أن نسمي كل «سُلطة» مهما كانت مُنْجِزة، بأنها نوع من القصور المعرفي، وفي مقابلها يتحيز الذي يُسمى بـ «الشعب» للأجمل كما لا يمكن أبداً أن يكون قصوراً معرفياً، لأنه وعلى مر التاريخ استأثر مَن يحكم بطريقةٍ للحفاظ على مقتضيات استمراره، عملياً ونظرياً، بحيث إنه صار كائناً ليس من طبقة أو نسيج الشعب، على اعتبار أن الشعب مجمل تعريف كل مستويات التعاضد لإدارة دفة الحياة على رقعة أرضية ولغوية ما. eachpattern@hotmail.com