يعود المهاجر من رحلة الاكتشاف ليجد طفولته بانتظاره في ممرات الصبر حيث تشكلت لأول مرة أغنيات الفرح واتسعت فكرة الأحلام وكبرت الى أن جاء زمن الرحيل. والمهاجر ينتمي الى الأوطان كلها ويرى في الأرض بيته، لكنْ رجلاه تعاندان فكرة الوقوف في مكان واحد وتحثانه على الخوض في مجاهل جديدة. ذلك لأن من يرحل من ارضه الأولى لا تعود له أرض ولا تظله سماء. هكذا ملتهباً في سراب الحركة، كل يوم بالنسبة له ذهاب ثم ذهاب، والعودة هي النهاية والإياب هو الختام. يعود المسافر وان تأخر قليلاً ليجد ماضيه بانتظاره على الباب، وأثقاله التي تركها في مستنقع الروتين يعود ليحملها على ظهره ويمشي ثقيلاً مطيعاً في دروب الأوامر يراكم الأحمال وهو يصعد جبل الواجبات يحاول أن يسبق الزاحفين في تيار الزمن البطيء حيث لا أحد يصل. يعود الشاعر من رحلة القصيدة بعد أن خاض في معارج الخيال مسحوباً من ذاكرة العدم الى نعيم الوصف وجنة الصور المستحيلة. قافزاً متلذذاً بتناقض الأضداد في وحدتها داخل اللغة حيث المرايا تحفظ أسماء الأشياء وتعكسها داخل لعبة الوهم. وحيث السيف أغنية في حروب العشق. كل ورقة بيضاء تصبح راوياً يسرد ذكريات المجد ويفخر باسماء ابطال بلا أشكال. كل حرف يرقص في موسيقى السجع. كل كلمة تخرج من معناها الأول وتصير جرساً يدق في الوجود البعيد الذي بلا صدى وبلا مدى. وانت أيها الشاعر المخطوف من يقظة العالم الى سراب السنين، ماذا ستكتب بقلم الغبار على الجدار. ماذا سترسم في صفحة الماء سوى الزوال الدائم للأسماء والأشياء. انه الشعر حين يتكاثر في فراغ المعاني ويصير حكمة منسية. انه انت على هيئة رجل عجوز يتكئ على قلم. يعود العاشق من حياته العادية ويدخل في عذاب الليالي والسهر. النجمة البعيدة تصير أغنية بيضاء في فم العتمة الصامت، والقمر الساهر في وحشة الفراق يصير وجه حبيبة تحرسها الأسوار العالية. والعاشق ينادي في الأحلام ويصرخ باسماء عشيقات ضاعت اسماؤهن في كتب الوله. ولكن لا احد يسمع هذا الصراخ ولا أحد يصغي لهذا الصمت. يعود الحكيم من حفلة الحرب باكياً حزيناً على المهزوم والمنتصر. متألماً لأن النار صارت لغة الاعتراف وصار الحديد يد المصافحة. كل دمعة من عين الحكيم تسقي شجرة الندم، كل آهة يطلقها من القلب تهز جدران الجهل وتزلزل أحجار العناد. والذي يبقى بعد كل هذا هو خيط الضوء الصافي الذي يربط المعنى بضده وتذوب فيه نهاياته جميع الأشياء. akhozam@yahoo.com