لم أبحث في مطار هيثرو عن إليان دي بوتون، ولا عن كتابه الجديد، الذي كان حصيلة تجربة غير مسبوقة في عالم التأليف. بحثت في صالات المطار وردهاته المكتظة عن أولئك الذين دوّن حكاياتهم، وأشرك القراء فيها. دي بوتون سويسري، صاحب سلسلة طويلة من الكتب الرائجة التي تنفع المسافرين في تزجية أوقاتهم المملة. لكنه عندما قدم إلى مطار هيثرو لم يجد في مكتباته العامرة أيا من كتبه. كتب إلى الجهات المختصة محتجا، فتلقى على الأثر دعوة من شركة الطيران البريطانية لقضاء أسبوع في المطار لكي يعيش تجربة لم يعتدها الكتّاب من قبل. عاش دي بوتون أسبوعه في المحطة رقم خمسة، مع صلاحيات في التنقل والعبور، ليخرج في المحصلة بكتابه “أسبوع في المطار: يوميات هيثرو” A Week at the airport: A Heathrow Dairy. كتاب دي بوتون، الذي تحملت الشركة البريطانية تكاليف طباعته ونشره، وقامت بتوزيع عشرة آلاف نسخة مجانية منه على المسافرين، ليس من الحجم الكبير، لكنه يحتشد بنوع من العواطف التي لا تتبدى إلا في قاعات الوداع والاستقبال، في المطارات والموانئ ومحطات القطارات. لا يحتكر الإنسان وحده صفة السفر والارتحال، بل تشاركه فيها بعض فصائل الحيوانات، خصوصا الطيور. لكن الإنسان حمّل سفره مفاعيل عاطفية ومعرفية. ففي محفوظات الأثر أن للسفر سبع فوائد. وفي تواريخ الشعوب سجلت الهجرات الكبرى والصغرى حضورها في صنع الحضارات. لكن السفر المعاصر أصبح مفردة يومية، لا تعني أكثر من غاياتها المبرمجة. يتباهى موظفون كبار ورجال أعمال وصحفيون ورياضيون وفنانون، بأنهم يعيشون في المطارات. نمط حياة هذا النوع من البشر، أفقد السفر دهشته وبهجته وتوتره واحتمالاته وتطلعاته وتلك الأشواق الكامنة في الصدور. لكن الكاتب السويسري يقول العكس. جمع في صفحات كتابه دموعا ذرفتها أعين المحبين والمشتاقين والمأخوذين إلى عوالم بعيدة. تلك دموع فاضت بها عينا أم وهي تودع ابنها في سفرته الأولى وهي تعرف أنها ستكون الأخيرة والدائمة. وبعدها بسنوات طويلة ستلفت انتباهي أم ثانية في مطار مدريد، تودع ابنها بالدموع نفسها وبكلمات تحمل نفس المعنى، ترجمها من كان معي: “أعرف أنك لن تعود أبدا، وأعرف أنني سوف أموت قبل أن أراك ثانية”. كأن محمود درويش كان في قصيدته يرثي حال كل المسافرين، وكل الأمهات المتروكات في قصيدته التي أراد فيها تأكيد المؤكد في معرض النفي: “وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا”. هذا المعنى سوف يتمثله المخرج المبدع ستيفن سبيلبيرغ عام 2004 في فيلمه The Terminal مع الممثل توم هانكس، عن قصة حقيقية لمسافر إيراني تقطعت به السبل في مطار باريس فعاش فيه عشر سنوات في حقيبة وعلى هامش كل الأوطان. بطل سبيلبيرغ كان من أوروبا الشرقية، وتفلّت منه مصيره في مطار جون كنيدي الأميركي. ويمكن أن يكون أي مسافر آخر، في أي مطار آخر، تشترط معايير الأمن الدولية تجريده من كل حمولاته ابتداء من الحذاء وحتى مخزون الرأس. في المطارات تستعيد كل الثنائيات تضادها الصعب: الغياب والحضور، الغربة والوطن، الرحيل والإياب، الرهبة والرغبة، الأمل والإحباط. ولعل هذا ما قصده دي بوتون عندما كتب: “كنت أشعر دائما بأن التواجد في المطارات أشبه بعملية التنويم المغناطيسي، وإذا كنت تريد أن تعرّف واحدا من سكان المريخ على الحياة على الأرض فعليك أن تأخذه إلى المطار”. عادل علي adelk58@hotmail.com