توقفت عند جملة صغيرة قالها أحد الممثلين في حوار له مع زميلته في المسلسل، حيث كان الصحفي يحاول استمالة زميلته إليه بدعوتها إلى العشاء أو شيء من هذا القبيل ليفهمها حقيقة مشاعره نحوها وكانت في كل مرة تصده لكنها في هذا المشهد قالت له بغضب: قلت لك ما أشعر به نحوك ألا تفهم ؟ فأجابها مبتسما أو مستهبلا ربما : “لا أنا لا أفهم أتعرفين لماذا ؟ لأنني خريج مدارس حكومية !! وأنت تفهمين أن خريجي الحكومة يحفظون ولكنهم لا يفهمون !!كان هذا الحوار في أحد مشاهد مسلسل”أهل كايرو” !
الشاهد في الموضوع كله حكاية الحفظ والفهم، فهذه الجدلية الأزلية التي أنتجتها المدارس الحكومية في أغلب الوطن العربي متجذرة أصلا في الذهنية العربية التي تميل بطبيعتها وطبيعة مكونها الثقافي إلى مسألة تقديس النص وتقديس الرمز وعدم محاكمتهما، وعدم انتقادهما، ويتساوى في هذه الذهنية الرمز الحقيقي مع الخرافي، كما يتساوى النص الديني مع الأدبي وغير الأدبي، وإذا أردنا أن نتلمس مدى هيمنة هذه الذهنية وسيطرتها علينا فلنجرب أن ننتقد نجيب محفوظ مثلا أو أحمد شوقي، وليقل أحدنا بأن المتنبي لم يكن أعظم الشعراء أو ليقل أكثر من ذلك من قبيل أنه لا يتلذذ بنصوصه مثلا، ولير سيل الهجوم الذي سيتلقاه من كل الجهات !!
عند الفرنسيين أديب وناقد في علم الدلالة اسمه رولان بارت، في منهج هذا الرجل فان المؤلف بعد أن يدفع بما كتب للقراء فإنه ينتهي، أي تنتهي علاقته بنصه لتبدأ علاقة القارئ به، وهنا فإن مهمة القارئ أن يفسر ويؤول النص بحسب مرجعياته وفهمه وتجاربه وبيئته ونفسيته دون أي علاقة أو استدعاء لخصائص الكاتب وهذا ما أطلق عليه بارت مفهوم “موت المؤلف” يقصد انتهاء علاقته بالنص بعد تأليفه ولذلك فإن موت المؤلف تسيطر على العقلية الأوروبية بشكل يحكم علاقتها بمختلف الرموز فلا قداسة لنص ولا قداسة لرمز والكل خاضع للمحاكمة أو المساءلة أو النقد، وهذا سر تطور المجتمع الغربي في نهاية الأمر.
الإمام مالك وقف ذات يوم على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وقال لجماعة حاولت أن تضفي على مقولاته نوعا من القداسة التي تمنع التقصي والتدقيق “ كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر الرسول “ وعليه فإن تربية الطلاب وجماهير الإعلام وجماهير السياسة على التلقي والحفظ وعدم التمحيص والنقد يربي فيهم التسليم بكل ما يقال دون تفكير، كما يقود لشيوع التفكير القدري الخارج عن نطاق المنطق، فمن قال إنني كمتذوق للأدب والشعر يجب أن يعجبني كل ما كتب أحمد شوقي أو الفرزدق أو جبران خليل أو غادة السمان أو .. من قال إن هؤلاء لا ينتقدون ؟
يمكن أن يقول أحدنا بأن بيت جرير القائل فيه
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
ليس هو أجمل بيت في وصف العيون الباذخة الفتنة وأن قول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب :
عيناكي غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناكي حين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
أجمل مما قال جرير بكثير.


ayya-222@hotmail.com