لست ممن لهم باع طويل في الاقتصاد، ويعتقدون أن الرشوة هي أس الفساد، كما يعتقدون أن ضياع المحفظة الشخصية مثل الأزمة العالمية، في النهاية تخرج صفر اليدين أو خاوي الوفاض أو على الحديدة، وقد أعجبتني اللغة حين تستعمل خبثها في التحايل على الرشوة الذي يمر اليوم العالمي لمحاربتها في الثامن من ديسمبر من كل عام، دون أن يتذكره أحد إلا الجمعيات التي تأسست لمكافحة هذا الفساد المستشري في المجتمعات التي تعطي للرشوة مسميات كثيرة، ومعاني مبهرة ومبهمة، لا تلوث اليد، ولا تعطن الجيب، بحيث يقدم الراشي للمرتشي الرشوة مغلفة بورق لغوي وتحايلي ومسكوت عنه من الطرفين!
البعض يسميها حصة، والآخر يطلق عليها عمولة أو كمسيون أو نظير الجهد أو أتاوة، أو إكرامية أو لزوم الشيء أعلاه أو أدناه، لكن الجميع يرفض أن يسميها باسمها، لأنها كلمة ثقيلة، وفجة، ويعاقب عليها القانون، وتنبذها الأديان السماوية، وتتبرأ منها النظريات الفكرية والأخلاقية، لذلك ابتدعت الشعوب لها مسميات مختلفة: الفرنسيون يدلعونها بكلمة مركبة “بور بوار” أي من أجل الشرب أو كلمة بخشيش ذات الأصل التركي أو بقشيش - كما تنطق عند الفرس والأتراك- وشعوب أخرى تسميها تنفيعة، واليمنيون يطلقون عليها السلط، وهو المال والزيت أو يستعملون المصطلح الدارج “نشتي حق بن هادي” وأهل بلاد الشام يسمونها الحلوان ويشتركون مع العراقيين بتسميتها البرطيل، وهي أيضاً ذات أصل تركي، وأهل المغرب يعرفونها بـ”التدويرة أو قهيوة” والجزائريون يقولون: أعطه كمون أو قهَوية، والتونسيون يطلقون عليها خَموّس وعَشّور، أي إنقده من فئة الخمسة أو العشرة دنانير، والسودانيون يسمونها بلصة، أما المصريون، فقد أعياني البحث من كثرة مسمياتها المضحكة والشعبية المتسترة، حتى أنهم يبتكرون لها كل جيل مسمى يتماشى مع مرحلته ووقته، والخليجيون يقولون: إدهن سيره أو باطه أو بخّه أو رشّه!
هل قادرة اللغة أن تطرح سترها على الأشياء بخبث من أجل أن لا تعيق ما يريده بعض الناس في المجتمعات؟ هل قادرة اللغة أن تمارس فعل الغواية بحيث تخدع من تريد، ومن يريد من الناس؟ هكذا تبدو لي مفردة الرشوة ذات الجرس الخشن على الأذن، وكيف ابتدع لها الإنسان من مفردات مبردة ومحببة على الأذن، خفيفة عليها، كما يعتقد الكثير من الناس أنها خفيفة الوقع على النفس أيضاً، فلا تظهر تلك النفس اللوامة عندهم مثلما تظهر حين تقدم له بمفردتها الصريحة الفجة، فاللغة اكثر أدوات الخداع وأمهرها، وخاصة تلك اللغة التي تمس مفردات ومصطلحات الاقتصاد والبنوك والمال والتجارة، بحيث لا تظهر بشاعة تلك المفردات والمصطلحات إلا إذا ظهرت أزمة اقتصادية عالمية، وتضرر الناس إلى حد الزج في السجون والانتحار!


amood8@yahoo.com