لقد عشت حياتي كلها جاهلة و متجاهلة لمبدأ المدح والإطراء فالأمر لايعنيني في شيء ولم يتغزل بي أحد قط، فلم ترد هواجسي فكرة الثناء لتأثيرها على الكمال. ولكني في حضرة السيد محمد باشراحيل صرت أشحذ تركيزي كله على ما يتفوه به من كلمات، فلهذا السبعيني المحترم تصرف مطلق معها وتصريف لجميع معانيها وكان هذا مما قد يؤرق سقراط ويقلق أفلاطون ويزيد من شكوك سارتر، فتعتريه وساوس فرويد. فمنذ اختار الله والديّ أصبح من أولوياتي عشق من في سنهم، فلا أبخل عليهم بساعات تشكل فرق الحياة أو الموت لذا فأنا حريصة على أن لا يمضي يومي من دون أن يصلني منه شيء فأصر على تكحيل عيني برؤياه وتسليك سمعي بنبرات صوته فقربي منه يجعلني أكثر إنسانية. في زيارتي له قبل يومين قال في الوهلة الأولى عندما رآني “ وأنا أقول فينك يا بو سمرة.. انت ياعيوّشة بداية الحسن و كل الجمال” لقد فرج ذلك عن كروب كثيرة وجعلني انتصب في جلستي وأقول لنفسي “كيف له ان يراني كذلك؟” وماذا يقصد بالجمال؟ فسألته: وماذا تقول عن زوجتك؟ فأجاب بلا حساب للوقت: هي ست الكل. لقد تزوجتها صغيرة ولكني لم أخنها قط، فلقد “أكلتها الحالي و لبستها الغالي”. فقلت نعم أن السيد محمد باشراحيل “سيد الكلمة” الذي يصفه أبن منظور بأنه من فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه المعين بنفسه وهو الذي لايغلبه غضبه، فهو مقهور مغمور بحلمه؛ أما الكلمة فيذكرها اللسان على إنها القصيدة بطولها. فوافقته القول بلا تردد كما “وافـق شنٌّ طبقة” فزوجته بديعة الجمال وهو سيد الكلمة الذي لم تتغير رؤيته للحياة وتطبيقه لمبدأ “الحياة سجال والنفوس آجال” و تسعدني التفاتته للشعر وحبه لاحتواء مقومات الحضارة حتى صار ينشد أبيات أكرم خضر: تحلو الحياةُ وآهِ مِنْ عَثَراتِها فالبِشْرُ دونَ المُنْغِصاتِ خَيالُ العمرُ يومٌ للرخاءِ وآخَرٌ كَيْ نُبتَلى إنَّ الحياةَ سِجالُ إنَّ السنينَ مواقفٌ رُسِمَتْ بِنا فخرُ الشعوبِ مواقفٌ ورِجالُ فبادرته بأبيات سمير العمري: الحقُّ أصــــدقُ والحيـــاةُ سِجــالُ يفنـى الغثـاءُ ويخلــدُ الأبطــالُ والليــــلُ يذهبُ والزمـــــانُ تقلُّـبٌ ولكلِّ دهـــرٍ دولــــةٌ ورجـــــالُ وبعد القصيد ساد صمت لم يعجبه فقال: دعيني أخبرك عني فلقد قضيت عمري كله، شبابي و قوتّي جميعها ذهبت في العمل. أحثك على العمل ولكن لاتنسي نفسك و لامن حولك فهم يترقبون منك فتات الوقت وهمس لمسات أصابعك على أكتافهم... لاتضيعيهم يابنتي” فاحتضنت عباراته ورسمت قبلة سامية على جبينه وسألته: أستودعك من لاتضيع ودائعه، إذا في الخاطر شيء، آمرني؟ فنظر إلي بنظرة أعشق رؤيتها في عينيه وقال: الله لا غيبك، إنت جئتنا من السما وأنا عارف أن البركة ستأتي من تحت يديك وأنه مافي حد يقدر يحل المشاكل مثلك يا عيوّشة.. تذكري يابنتي أن تعطي الطريق حقه”. تركته وكبلت نفسي بواقع اللحظة، سوف يبقى هو رمز الكرامة ساكن الباهية وأنا العاملة في العاصمة والمسافرة يومياُ إلى دبي. د. عائشة بالخير bilkhair@hotmail.com