حين أخذتني طرقات المدينة إلى السوق القديم على الضفة الأخرى لدبي، كنت كمن يجتاز سوراً وهمياً ما بين اليوم والأمس، كنت بحاجة لأصوات البارحة، ولتفاصيل وجوه المكان الذي يكاد يختفي تحت أقدام القادمين، مشيت، تأملت، تفرست في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، قبل أن أصطدم به، كان يجلس على كرسي متهالك وهو بالكاد يقوى على النهوض، رجل أخذ منه العمر ما أخذ، فما أبقى منه سوى جسد، بينما تكمل السجائر على ما تبقى منه، بأصابعه النحيلة كان يمسك سيجارة لا تفارق شفتيه، بينما يده الأخرى تلملم الغبار عن بقايا بضائع عجيبة.
ليس له دكان أو محل يقفل عليه أشياءه، لكنه كان يفترش الأرض، ويجلس على كرسي دوار ممزق ورثٍ، وعلى تلك (الفرشة) كان يضع أشياء عجيبة يعرضها للبيع بكل فخر، كان واثقاً بأنه يبيع أثريات يقبل عليها السياح الأجانب - هكذا كان يقول - فإذا نظرت إلى أثرياته وجدتها لا تعدو أحجارا كريمة من النوع العادي جداً، سُبح ملونة من كل نوع، قواقع وأصداف بحرية، أغطية قديمة لزجاجات مياه غازية انتاج الخمسينيات ربما، ورق لعب مستخدم، بطاقات هواتف مستخدمة، راديو قديم، علب فارغة وساعات مهترئة !
أجلسني وأعطاني حجرين وقال لي: رجيهما بين يديك الاثنتين وأعطيني إياهما، فعلت، أخذهما وصار يتأمل ويقرأ، قال أشياء كثيرة على سبيل قراءة الطالع ولم يوفق في شيء مما قاله، لكنه كان يمارس عملاً اعتاده على اية حال.
سألته كيف يحفظ أشياءه من السرقة والعبث إذا أغلق السوق، قال: أغطيها بغطاء سرير كبير، وأتركها في حفظ الله، البلدية تسمح لي بذلك نظراً لظروفي، يتحدث فلا يبخل عليك بشعر جزل يحفظه عن ظهر قلب، يوصيك بوالديك وبالصلاة والخلق القويم مع الناس، يقول إنه عاصر المدارس القديمة ودرس مع كبار شخصيات البلد، ويذكر لك حكاية رحلة الباص الذي ذهب فيه تلاميذ مدرسة الاحمدية في أول رحلة مدرسية منذ سنوات طويلة في بداية الأربعينات، وانقلب بهم، وعدت الحادثة يومها كارثة لأن بعض الصبية فارقوا الحياة.
طلبت الحجرين منه، ونقدته ثمنهما مضاعفاً، ثم شكرته مودعة، بينما كان يتمنى علي أن أزوره مجدداً، فلم أعده لكنني ابتسمت له ومضيت حيث ينفتح فضاء السوق على هدير الشارع، وحيث يقف الجميع لتناول كوب حليب كرك من بائع يفتح دكانه على رأس الشارع المتقاطع مع السوق، هناك تجد بعض السياح، وبعض رجال الشرطة وبعض المارة يقفون في انتظار دورهم، وغير بعيد تجلس مجموعات بانتظار قارب ينقلهم لضفة ديرة في الجهة المقابلة.
تقف وأمامك الخور، قصة العلاقة الأزلية بين دبي والبحر، بين المجتمع والتجارة، بين التجار والعالم حولهم، بين الحياة وأسطورة دبي، تقف بينما تشمخ أمامك مبان عملاقة ذات سيرة خالدة في حياة المدينة كمبنى غرفة تجارة وصناعة دبي، مبنى بنك دبي الوطني، مبنى اتصالات، والبرجين التوأمين حيث احتل نادي دبي للصحافة فيما مضى الطابق رقم (21) قبل أن يستقر أخيرا في منطقة البستكية.
خرجت إلى فضاء الشارع واجتزت نقطة تجمع ركاب القوارب العابرين ضفتي الخور في قوارب تهدر محركاتها ذهاباً وإياباً، تتبعت النوارس، وحالفني الحظ في أن أجلس في مطعم صغير في الفضاء الضيق أمام البحر لأجلس بهدوء أتأمل حكاية مدينة لم تكتب بعد. 


ayya-222@hotmail.com