العائلة: يظل الإنسان يحيط نفسه بالعائلة، صغيرة كانت ام كبيرة، متصلا بخيوطها المتشابكة تشابك الأغصان ببعضها. ومن طبيعة الاغصان انها تتفرع في اتجاهات متضادة لكنها تتشابه في انتمائها الى الجذر الأول، والذي يأتي الى الحياة مقطوعا من شجرة تصبح الأرض والدته والسماء ابوه وبقية البشر اخوته المتضادين معه في درجة الالتفات نحو الشمس. هذا التدريب منذ الطفولة على العيش في كنف العائلة هو الذي يدفع الناس الى تأسيس عوائل لهم حين يكبرون حيث يتحول الاب الى عروق بيضاء تغوص تدريجيا في الارض وتتحول الام الى جدع تمتد منه الاغصان الصلبة والمنحنية والمائلة واحيانا المكسورة. ومع الزمن يذوب الاب وتتحلل اقدامه وهو يغوص عميقا في تراب الايام وتتثاقل خطى الام وينحني جدعها وهي تحمل فوق رأسها هموم الابناء والبنات وازواجهم واطفالهم واحفادهم اشبال الشقاء الوردي. والعائلات بعضها صغير ويكبر وغيرها كبير ويصغر، ومع دوران الارض يختفي نسل هنا ويطرأ نسل هناك، ثم تختلط الدماء وينبعث نسل جديد هجين لكنه يصبح اصليا في المدن الهجينة المركبة التي تنزاح فيها الفوارق البشرية ويتم الاحتكام فيها الى الملكية ونوع الوظيفة والمال. ثم يظهر الفلاسفة الجدد برسالة جديدة مفادها ان البشر عائلة واحدة كبيرة تسكن في قرية كونية صغيرة، ومع ذلك تستمر الحروب وتظل الاحقاد تتغذى من وليمة الطمع وترتفع خناجر الغدر بين الاخوة في دسيسة الليل ولا يعرف احد ما الذي يرضي الناس ويجمعهم على المحبة العظيمة الموجودة في قلوب الامهات. الوظيفة: ما ان يخرج الشاب المسكين من معتقل المدرسة والجامعة حتى يزج بنفسه مضطرا الى سجن الوظيفة اليومية، وكأنما حياته هي استمرار عبثي لقانون الخضوع والطاعة وإتباع الأوامر. والموظف يتحول مع الزمن الى ما يشبه الكرسي ويكتسب صفة الثبات في المكان الواحد حين يحيطه الضجر وتنخر اساساته الرتابة ويخنق الروتين روحه المتحفزة فلا يقدر على القفز. ويصير صوته ندما خفيا وتتلاشى ضحكاته الطفولية في الاجتماعات الفارغة. والوظيفة هي آلة القسوة الكبرى التي افرزتها مدن العالم الجديد، حيث تخلى الجلادون عن السوط وابتكروا المال والوظائف لاخضاع الناس وارغامهم على المشي في طوابير الصبر الطويلة. والذي يخالف قانون الوظيفة بالتمرد او العناد يكون مصيره الجوع والموت البطيء والتشرد في شوارع الجفاف التي لا لقمة فيها لجائع. والتحرر من سلاسل الوظيفة لا يتم الا حين يكبر البشر ولا يعودون قادرين على صعود تلال البهجة. عندها يفك الجلادون اسراهم الطاعنين في السن ويسرحونهم في ممرات الفراغ ليلتقوا بوجوههم الحقيقية المتجعدة ويكتشفوا ضياع الزمن وفراغ جيوبهم بعد كل هذه السنوات من الطاعة والخنوع. ما بين العائلة في البيت وبين الوظيفة جسر من الشوك يعبره المجبور مطأطأ الراس، ويعبره المتفائل خفيفا قافزا في فكرة التغلب على الصعاب. وقد يعبره التواقون الى الحرية زاحفين. akhozam@yahoo.com