قالت إن اسمها بطة. صححت لها، أو تفاصحت: يعني اسمك فاطمة. فأنا أعرف إن كل فاطمة هي بطة في تلك الحواري الخفية، الملتفة على بعضها، المتشابكة كنباتات الدغل. أجابت بسرعة: لا يا بيه، أنا بطة. اسمي بطة وبس. كانت تضبط توقيتها الصباحي على رائحة البن المحروق. فوق الموقد الصغير أعد قهوتي وأنا في المنتصف تماما، ما بين آخر إغواءات النوم وأول إخفاقات الصحو.. ما بين ليل يسترخي تحت الجفون، وضوء آخذ في التوهج. أبدأ طقوس القهوة في ذلك الركن المعتم من المطبخ، الذي لم أحاول إضاءته مرة. يتناثر بعض البن فوق النار مباشرة، فتعبق رائحته في المكان وأعماق الرأس. في هذه اللحظة تقرع بطة جرس الباب. أذهب لكي أفتح لها، فتفور القهوة فوق النار وتطفئها. ـ هوّ كل مرّة كدة يا بطة. أقول لها. فتجيب برتابة: معلهش يا بيه. دلق القهوة خير. حاعملك غيرها. أحتسي ما تبقى من قهوتي مع سيجارتي الأولى، بانتظار أن تنتهي بطة من إعداد القهوة البديلة. كنت أسمعها، وهي في المطبخ تدمدم. ظننت في البداية أنها تدندن. تغني ما تحبه من الأغاني التي تسمعها في الراديو. هكذا تفعل أغلب الشغالات. لا بل هكذا تفعل كل النساء في ممالكهن الصغيرة، كما أحسب. لكني كلما أصغيت إليها، تيقنت من أن ذلك الصوت الصادر عنها، ليس دندنة. ليس غناء. إنها تحكي. تتكلم مع نفسها. تتبعت ثرثرتها المتواصلة ولم أقع على كلمة واحدة مما تقوله. ما هو هذا الحوار من طرف واحد الذي تخوض فيه فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، تعمل في بيوت ساكني العمارة؟ تساءلت وأنا أسترجع صورة جدتي في أيامها الأخيرة. كانت سنواتها المتراكمة مليئة بحكايا خبأتها لآخر محطة في العمر الآفل. راحت في ساعات صحوها القليلة تستدعيها بسرعة كأنها تخاف أن تفلت من كلماتها الحروف. كنت أراقبها محاولا الفوز بكلمة واحدة تدلني على الموضوع. ودائما كنت أتوه كما هو حالي الآن في زحمة كلام بطة العصي على السمع. سألتها: ما الذي تقولينه يا بطة؟ لم تتفاجأ: أهو. أي كلام يا بيه.. ولكن ما الذي يشغل بالك ويطلق لسانك؟ وكأن السؤال حرّر الكلام المخنوق في أعماق الحنجرة ووضعه على طرف اللسان: بفكر في حال الدنيا يا بيه. لأ، بفكر في حالي أنا. هوّ يعني الدنيا حتتغيّر؟ مش عارفة، ولا أنا حتغيّر. نفسي أمشي من الحتة. بس لأ، مش عايزة.. هنا أنا عايشة، هناك يمكن أموت. بس أنا نفسي أموت. همّة إللي جربوا الموت يمكن عايشين كويّس. بس أنا مبسوطة كدة.. الحمدلله. نفسي في حاجات كتير. بس مش عايزاها لأنها ممكن تتعبني.. والله ما أنا عارفة.. وإنت يا بيه، مش بتفكر كدة؟ باغتني السؤال. لم أفكر في إجابة ملائمة، فقلت: حيرتي تشبه حيرتك يا بطة.. كأنها لم تكن تريد رأيي، فواصلت: تعرف يا بيه، نفسي أغيّر اسمي. أمسكت بطرف الحديث، فقلت: عظيم. ما رأيك باسم فاطمة؟ أجابت: مش عارفة، ما هيّ كلها أسامي... * من نص طويل لن يكتمل أبدا. adelk58@hotmail.com