الجريمة البشعة التي وقعت في النرويج وراح ضحيتها العشرات من الأبرياء، تفتح نافذة واسعة لسؤال كبير: كيف يحدث هذا في بلد اسكندنافي تجاوز في رقيه الاجتماعي والإنساني دولاً عظمى تسلحت بالضخامة العسكرية والاقتصادية حتى التخمة؟
كيف يحدث هذا في بلد يقال إنه تحاشى من زمن بعيد، ومنذ أن فكر الفيلسوف الفرنسي نيتشه أن يخلط الأوراق، ويقلب الأمور رأساً على عقب، ويصدر قانونه الخاص “إرادة القوة” تحاشت فكرة الكبت والقهر الثقافي؟ كيف يحدث هذا والنرويج بلد صغير غني بنفطه ورقي شعبه، ونباهة سياسييه ومفكريه، ولا يوجد ما يبرر كل هذا الحقد الدفين على الحياة والانتماء إلى فئة دون أخرى بصورة عمياء مذهلة؟
أتصور أن هذا الحدث تاريخي، وسوف يحرك آلة المفكرين والفلاسفة في تلك البلد، كما حركهم قبل ذلك زلزال لشبونة في القرن الثامن عشر، ونظروا إلى غضب الطبيعة على أنه فكرة رائعة لتغيير مفاهيم مغلوطة كثيرة. أتصور أن أول ما سيتوصل إليه الفلاسفة هو أن الجريمة ليس لها دين ولا وطن، ولا عرق ولا لون، إنها هكذا كالطائرة الورقية، تحل أينما شاءت لها الظروف المحيطة، ولا علاقة للأفكار الكبرى بهذا.
المجرم لم يكن من الشرق الذي وصف بالعنف، ولم يكن ينتمي الى ديانة معينة وصفت بالشراسة، إنما هو رجل من النرويج بلد متحضر بكل معنى الحضارة التي يعنيها الناس أجمعين.
أتصور أن مفكري الغرب سيتوصلون إلى فكرة مفادها أن العنف شرارة يمكن أن تعلق في ثياب أي إنسان، والشرارة مبعثها فكرة طارئة جاءت في البداية من مخزون تربوي قديم، ولو فحص هذا الرجل فحصاً نفسياً دقيقاً سوف يكتشف أنه يعاني من عقدة تربوية أدت إلى انفصامه وانفعاله على الواقع ومعاداته له، ومن ثم التفريغ عن هذا العداء بارتكاب الجريمة البشعة، ومهما قيل عن انتماءات وأيديولوجيات ينتمي لها هذا الرجل أو سواه، إنما البؤرة الأولى للخطر هي النفس، هذا المخزون الخطير الذي لو شحن بمتفجرات وألغام نفسية خطيرة أصبح من الحتمي أن يتحول الشخص إلى مجرم خطير وفتاك.
بعد هذه التصورات، أتصور أن العلاقة الإنسانية بحاجة إلى تأثيث مشاعر جديدة، إلى تلوين جدرانها بألوان جديدة ومختلفة، الى تغيير جذري في بناء الشخصية التي على ما يبدو تعاني من قدم في المفاهيم التي ما عادت تنفع مع عصر التقنية الذي سلب الروح معناها، واغتصب من النفس محتواها، وصار الكائن البشري يجري خلف الآلة حتى جفت قدماه، ونشف ريقه، وابيضت عيناه، واسودت نفسه من أثر الخشوع لآلة صماء، بكماء، عمياء، مهما كان لها من أثر اقتصادي مذهل. أتصور أن العالم بحاجة لإعادة تنظيم الأفكار قبل أن تطحنها الآلة العجفاء.


marafea@emi.ae