“وفي شرفات هذا العصر قد وقف الرجال الزائفون مهفهفين ملمعين مثل البغايا حين يقطعن الطريق على وقار العابرين لكنه زمن، وسينتهون”. لا أزال أذكر هذه الأسطر من مسرحية عبد الرحمن الشرقاوي الشعرية “الفتى مهران”، ولا أزال أذكر المسرحية نفسها بهذه الأسطر في دلالاتها المتعددة، فهي تتحدث عن الزيف الذي يملأ الحياة في عصور الاستبداد، خصوصا حين يرتفع المنافقون والمنتفعون الذين لا يكفون عن تملق كل الأنظمة الحاكمة في كل العهود. ولقد عرفنا هؤلاء في زمن عبد الناصر مع الذين حاولوا التمسح بنظامه، ونفاقه والتذلل إليه من أجل مصالحهم، فكانوا أشبه بالبغايا اللائي يقطعن الطريق على وقار العابرين، لكن نفاق هؤلاء وانتهازيتهم لا يمكن أن يستمرا إلى الأبد، فكل شيء له نهاية، ولو دامت لأحد من الحكام لما انتقلت من غيره إليه، ولا منه إلى غيره، فالتغير سنة الحياة ولا بقاء لأحد، مهما بالغ في التذلل والنفاق والبحث عن المنفعة. وجبروت أي حاكم إلى زوال مهما كان. والحق أن دلالة “الفتى مهران” تظل عامة في بنيتها الرمزية، فهي بنية تنطق المسكوت عنه من الخطاب السياسي المقموع في زمنه، وتتصدى لحكم عبدالناصر واستبداده بوساطة التمثيل الرمزي، واختراع شخصية الفتى مهران الذي يغدو ضمير الشعب، ويقول للحاكم المتخيل ما ينبغي أن يقال للحاكم الحقيقي في كل مجال من مجالات حكمه، تأكيدا لقيم الحرية والعدالة والمساواة والدفاع عن حقوق المحكومين التي نسيها الحاكم. وهو نوع من الكتابة المقاومة للاستبداد والمدافعة عن الحق دون خوف، وهذا هو دور الكاتب الأصيل الذي يواجه الاستبداد، ويقف في صف المظلومين دون تردد، وذلك أمر بديهي لأن كل كاتب أصيل يرى في نفسه ضمير الشعب ووعيه الخلاق، وأهم من ذلك صوت الحق الذي يقاوم القمع والطغيان، غير عابئ بخوف الخائفين، بل يرى في هذا الخوف دلالة على ظلم السلطان وفساد حكمه وجبروته الذي قطع الألسنة وأخرس أصوات الاحتجاج، فيتمرد الكاتب الأصيل على ذلك، ويصبح صوت الخائفين الذي يجرؤ على أن يقول ما لا يجرؤون عليه، خصوصا حين لا يبقى من الدولة إلا عسس السلطان الذين يطاردون الصدق في كل قلب، فلا يغدو لسانا قادرا على قول الحق، فالكذب أسهل وأكثر منجاة ولذلك يهتف الفتى مهران في وجه السلطان: “وهذا كله من حصاد الخوف.. هذا الخوف منك يجعل الناس تردد كل ما ينفخ فيها من عبارات الولاء إن هذا الخوف منك.. هو لن يهدم غيرك فاعتراض صارخ ممن يحبك لهو خير ألف مرة من كاظم غيظ يرهبك”.