كم من الوقت يحتاجه عرب الثورات لترتيب أوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ كم من الوقت يحتاجونه وهم بين الكر والفر، وبين نفر النجاة من نار الديكتاتوريات، وجحيم الثورات التي لم تتضح لها معالم بعد؟ زمن عربي، يتشكل بطريقة غوغائية مخيفة، وأحوال لايبدو أنها تتحسن جرَّاء هذه النقلة المباغتة بعد زمان المخاتلة والاختباء في منعطف السكون الرهيب، والقبول بالأمر الواقع.. في ليبيا القتال شرس بين طرفين يتسلحان بالوهم، ومعطيات على الأرض، لا تمنح أحداً الانتصار على الآخر.. قوات العقيد تهدد وتتوعد الداخل والخارج، وتنزلق في منعطفات سياسية معقدة أكثر من تعقيدات الكتاب الأخضر، وقوات الانتقال تظفر بالنجاح تارة، وتكسب الفشل تارة أخرى، وتؤنب الخارج بأنه لايقوم بالدور الداعم المطلوب.. وليبيا التي كانت أيام ريعان العقيد تعيش بين عصرين متناقضين، تعود الآن أدراجها لتستقر عند حافة عصر برونزي، لم يشفع له النفط ولا النظريات البرّاقة، ول ابتسامة الأفارقة وهم يرمقون نظرات العقيد “الشامخة”.. وليبيا الرابضة تحت ركام الدمار والخراب وضياع الطاقات، تصرخ قائلة متى يهدأ الطوفان، ويتحرر الإنسان من التصريحات والتصريحات المضادة، وتعود المؤسسات الليبية من مدارس ومستشفيات وخدمات أخرى تعمل لمصلحة الإنسان الليبي؟ أرض ليبيا تصرخ هي الأخرى قائلة: لو ينفض المختار قبره من جديد، ويتطلع إلى بلاده التي حررها من المستعمر الإيطالي، سوف يلعن الكراهية والحقد والجبروت والأنانية، والذات المتورمة، ويقول بالحرف الواحد: ما كنت أتمنى أن تصبح بلادي ساحة لصراع الأشقاء الأعداء.. والتاريخ بدوره سوف ينبش في دفاتره، ويزعق هازئاً بما يسفك من دماء، وما يهدر من طاقات، وما يفرط به من حقوق، ويضيع من شرف عربي تحت سنابك خيول جامحة، لا تعرف غير العنف، ولا تفهم غير لغة التطاحن بالسلاح، والعالم يتفرج، والخطوات نحو المستقبل المنشود تتعرج، وتنضرج بدماء الأبرياء.
التاريخ لا تصنعه نفوس مريضة، وشعاب الجغرافيا لا تمهدها أقدام حافية ومستقبل الأجيال لا يبنى بسرعة الانتقال من النار إلى النار.. سوف ننتظر كثيراً، وسوف يمضي الوقت الطويل، ونحن نتهجى حروف ما يحصل، لأنه يحصل في لحظات زمنية فارغة، وتاريخ فيه تجاوز العالم هذه النفسيات المعتلة، القابضة على ركام من رماد ماضٍ، وغبار حاضر، وزبد مستقبل، ربما لن نعيش رباطه إلا بالعودة إلى القرون الحجرية، لنجمع شتاتنا ونلتقط بقايا ما تبقى من جثث الموتى، الذين يخطفهم الجهل في ساعة غفلة وساعة مكابرة، وعدم الاعتراف بالآخر وكأن الأرض لا تتسع إلا لطرف دون طرف آخر.. يشعر الإنسان بالأسى، وهذه الجحافل من البشر تقسو على الأوطان، وتتعامل بضراوة الأعداء مع البشر والشجر والحجر، ولا تُبقي ولا تذر، لأنها فقط تريد أن تُقصي، وتريد أن تنتخب نفسها فريدة وحيدة ولا سواها.. يشعر الإنسان بالأذى، ونحن لا نزال نمارس الحروب الطائفية، ونجعل منها قانوناً لا نحتكم بغيره.


marafea@emi.ae