برغم كهولته، وسنوات عمره التي تجاوزت الثمانين فإن المناضل نيلسون مانديلا لم يتخل عن سرعة بديهته المعهودة، لذلك فإنه أنهى رسالته التي تحدثنا عنها في مقال الأمس للثوار العرب بهذه الجملة العميقة الدلالة: “... أتمنى أن تستحضروا قول نبيكم يوم فتح مكة: إذهبوا فأنتم الطلقاء”. وقبل هذه الجملة فقد أورد مانديلا مثالاً حياً من تجربة بلاده الشبيهة لما جرى في مصر وتونس، وربما سيجري في دول تعصف بها رياح الثورة والتغيير مثل ليبيا واليمن وسوريا.... إلخ، فيقول في موضع من رسالته “.. أذكر جيداً عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام العنصري السابق، لكنني وقفت دون ذلك بشدة...”.
السجن الطويل، والأمل في بلاد خالية من الظلم، منحا الرجل ما لم يتوافر لجموع الشعب الذي توجهه وتؤججه المشاعر وردات الفعل وقصور النظرة والتجربة، الحكمة يولدها الصمت والصبر ومعاناة الألم. آلام سجن استمرت لأكثر من 27 عاماً لم تمر عليه مرور الكرام، فلقد تأمل خلال هذه السنين وتعلم وتفقه ودرس وحلم، وبالتأكيد فإن فقه السياسة عند رجل هذه تجربته تستحق أن نستمع إليه ونتعلم منه ونأخذ شيئاً من قبس أنوار حكمته، بعيداً عن الجدل فيما إذا كانت هذه الرسالة التي نتحدث عنها حقيقة أم غير ذلك، ففيها ما يستحق التوقف.
لماذا وقف مانديلا بشدة في وجه الذين رفعوا مطالب المحاكمات والانتقام وتطبيق القصاص؟ أليس هؤلاء البيض ومن تعاون معهم قد سووا في أبناء جنوب أفريقيا ظلماً وقهراً وقتلاً وسجناً؟ ألا يستحقون أن يذوقوا ما جنت أيديهم ؟ أليست تلك هي العدالة والحق؟
نعم كل تلك الأسئلة مشروعة، ولكن ذلك الانتقام المراد مشروع... ولكن مانديلا المناضل السجين المظلوم والمعذب وقف في وجه الضحايا وصرخ فيهم: لا لن ننتقم، سنكون نحن ولن نكون هم، سننتصر للحق والعدالة ولن نواصل القتل والقهر، لأننا لن نصل بجنوب أفريقيا إلا إلى الديكتاتورية وسنقتتل ونتحارب ونحرق ما تبقى من بلادنا.
مانديلا الحليم والحكيم شكل لجنة اسمها “لجنة الحقيقة والمصالحة” جلس فيها الجلاد والضحية، المعتدي والمعتدى عليه، وتصارحا وتسامحا في لحظة مسؤولية عظيمة، كان خياراً صعباً وسياسة مرة، لكن الأيام التالية برهنت على أنه الخيار الأمثل، فقد أرسل مانديلا ومن معه رسائل تطمين للجميع، للداخل والخارج، كي لا يخاف أحد من الثورة وكي لا يصاب أحد بالرعب من الديمقراطية والعدالة والحرية، وهذا ما استقطب اهتمام العالم وتعاطفه مع الرجل، ووقف الكل معجباً ومقدراً له، بل ومنبهراً بسياسته وبقدرة التسامح لديه والتي بنت جنوب أفريقيا، وحولتها إلى نموذج حضاري سريع النمو والتنمية.
إن الفوضى التي لا زالت تعصف ببلدان الثورات تحتاج إلى حكماء في وزن مانديلا. تحتاج إلى حلماء لبلادهم وليس لأنفسهم وأحزابهم. تحتاج لقادة ورجال أمثال مانديلا يخططون للانتقام من مظاهر الجهل وأسباب الفقر، وبؤر الفساد، وليس الانتقام من فلان وعلان.
إن تكثيف جهود المجتمع وإمكانياته لصالح مشروع الانتقام ليس إنجازاً ثورياً، إنه عين الفشل وقمة الغباء السياسي.


ayya-222@hotmail.com