تبقى لوحدك ولوحدتك التأملية، مخاصماً النقال، فليس مثله منبه، ومشتت للحظات المسرة، تفرح برؤية زوجين تخطيا السبعين، وغدا كالأخوين من طول المعاشرة، يستمتعان بدفء الشمس الخجولة ذاك النهار، يمارسان رياضة المشي على الحشيش الاصطناعي، وبالتأكيد يستذكران أياماً مضت أكثر من التفكير في الأسبوع الأول بعد انتهاء الإجازة، ففي فترات العمر الخريفي يفضل المرء أن يعيش الساعات أكثر من الأيام، وحتماً يكره العد، يمر قبطان السفينة ويحيي النساء أولاً بطريقته المهذبة، لطالما غبطت القبطان على حياته الجميلة بين البحر واليابسة، وجدلية العيش بينهما، يتساوى عنده الليل بالنهار، ويظل هو سيد نفسه، ثمة إحساس يسربه لك القبطان، هو تلك الشجاعة التي يجب أن يتحلى بها، فلا يجدر بالجبان أو الرعديد أن يقود سفينة لوحده، وثمة إحساس بالزهو يتملكه، وكأنه حينما يدخل مدينة، يدخلها فاتحاً بمراسيه وأشرعته.
في الإبحار الطويل تستطيع أن تصبح تلك المدينة المائية هي الحياة بطرقها الضيقة، الممرات الرخامية، المشارب، الشرفات، الواجهات الزجاجية، المطاعم التي تجبرك على المضغ والهضم، الأجنحة بأسرتها التي تجلب النعاس دون تباطؤ، ولا تحتاج إلى هز، و”مهاوة” أو دلال في الحجر، من غرفتك قادر أن تتصل بالعالم أو تنفصل عنه، قادر أن تذهب إلى السينما أو تأخذ قسطاً من الراحة على أيدي نساء صنعتهن العطر والاسترخاء، ومعرفة بواطن التعب والإرهاق، حيث تشعر بعد ساعة أنك كنت تغط في حلم جميل بين زهر وورد وعصافير الجنة، يمكنك أن تجعل من حمام السباحة مرتعاً، تخط لونك بتلك السمرة الشمسية التي تشبه الحنطة، تقرأ كتاباً بعيون ناعسة، يمكنك أن تمارس رياضتك، يمكنك أن تعمل الكثير بحضرة أصدقاء مسافرين من الجهات الأربع، قد لا يعرفونك، لكنهم يستلطفونك من أول وهلة.
قد تتوقف تلك المدينة العائمة في مدن كثيرة كوبنهاجن مثلاً، هلسنكي، سانت بطرسبيرج، إستونيا، استوكهولم، وتكسب صباحات تلك المدن، وتشهد غروب الشمس المتأخر حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً، وقد تضيء لياليها البيض وتطيل سهرك، قد تترجل منها في كل مدينة ترسو فيها ليوم أو يومين وقد تطول، ربما تعود إليها في مساء التعب لتغط في السرير الأبيض الوثير، يهزك الماء، ولا توقظك إلا أشعة الشمس إن تسللت إلى نافذة شرفتك، مبشرتك بيوم جديد، وحين تمل من الإبحار، وتريد أن تعود إلى ضجيج أيامك، وتودع السفينة الحاضنة لأوجاعك وآلامك، ولأفراحك الصغيرة، تشعر بتلك الغصة التي يخلقها الوداع عادة، ينتابك إحساس بالفراغ والفراق، وتشعر أن تلك الصداقة الدافئة التي تكونت خلال الأيام والليالي، والمدن والمرافئ، ووجوه الناس التي ألفتها، ستلقي بها في البحر دفعة واحدة، لتعود إلى يابستك من جديد تتعكز على ظل شبحك الذي يسبقك على رصيف المرفأ القريب.


amood8@yahoo.com