تبادلتا الرسائل طيلة عام. صبرتا على كسل ساعي البريد، أو على التباطؤ المتعمد. تناثرت في رسائلهما شذرات مما تلهج به النساء عادة: حكايات الزواج وآلام الولادة ومتطلبات الأولاد ووصفات الطبيخ. لكن كل تلك الحكايات كانت هوامش أو حواشي للحكاية الأساس، حكاية الصراع والكراهية بين شعبين. فلسطينية وإسرائيلية التقتا بالصدفة في جنيف. شيرين عنبتاوي تعمل لإحدى وكالات السلطة الفلسطينية المهتمة بالاستثمار، تعيش مع عائلتها في رام الله. ودانييلا نوريس، ديبلوماسية إسرائيلية سابقة ومتفرغة للكتابة، تعيش مع عائلتها في تل أبيب. كان تبادل الرسائل بين المرأتين امتدادا للقاء الوحيد بينهما. انتبهتا إلى أن المسافة التي تفصل بين مكاني إقامتيهما لا تزيد على مئة كيلومتر، لكنها في الواقع تمتد إلى تاريخ وأجيال ومعابر وحواجز وجدران وأنهار من الدماء. شيرين ودانييلا جمعتا رسائلهما في كتاب صدر حديثا عن دار نشر صغيرة في لندن بعنوان “عبور قلندية” Crossing Qalandiya وفيها تظهر أبعاد علاقة بين عدوين، غير تلك التي تفصح عنها العمليات الفدائية والحملات العسكرية التدميرية وجولات المفاوضات ومشاعر الغضب المتبادل. تقول الإسرائيلية في إحدى رسائلها: “أعتقد إنك تتفهمين تلك المسلمة التي تتحدث عن جانبين لكل قضية، لكن في حالتنا يبدو أن هناك ثلاث جوانب. رؤيتك أنت، ورؤيتي أنا، بالإضافة إلى الحقيقة التي تقع في المنتصف بين هاتين الرؤيتين”. بدت الإسرائيلية وكأنها تبحث عن نقطة تفاهم. تلح على ضرورة إهمال الجانب التاريخي للقضية. تصبح الأمور أكثر تعقيدا حينما يصبح التاريخ منطلقا أو حجة، على الرغم من ضرورة العودة إلى الجذور لمحاولة فهم الآخر بشكل أعمق. فلنتكلم عن الحاضر والمستقبل. توافق الفلسطينية. تتحاور الاثنتان كأنهما عضوان في وفدي مفاوضات. لكن مادة الحاضر الفلسطيني بدت أكثر دسامة: دماؤها أغزر، دموعها أوفر، آلامها أوجع وقصصها تتوالى تحت حراب جنود الاحتلال وصلفهم على المعابر والحواجز. تحكي الفلسطينية عن يوميات قاهرة في المدن والقرى المفصولة والمعزولة. تروي حلما صغيرا يراودها وزوجها. أن يتمكنا من قيادة السيارة بالسرعة الرابعة. فقصر المسافات بين الأمكنة التي يتحركون فيها، وكثرة الحواجز تحول دون الوصول إلى تلك السرعة/ الحلم. التقطت شيرين ذلك العصب المؤثر، فراحت تغذيه بقصص من يومياتها وتجارب من تعرفهم. استفاضت في شرح معاناة انتقال الفلسطيني من مدينة إلى أخرى. التنقل داخل المدن وبينها، من يوميات الإنسان الرتيبة، لكنها عند الفلسطيني فعل وجود. المسافة بين نابلس ورام الله لا تزيد في الظروف العادية عن نصف الساعة، لكن مزاج الاحتلال يمدها إلى ساعات أو يمنعها. تصبح المسألة أعقد عندما يريد الفلسطيني السفر إلى الخارج. عليه أن يمر في مخاضات عسيرة لأنه ببساطة بلا دولة. الدولة؟ كأنها كلمة السر عند المتراسلتين. الحلم المشترك. الاشتهاء المتبادل. الإسرائيلية تريد دولة تعوّض مواطنيها عن آلام الهولوكوست. والفلسطينية تريد الدولة لأنها الحق الطبيعي لشعبها. هنا تعود المسألة إلى نقطة البداية، إلى التاريخ. تقر الإسرائيلية بأنها كانت طيلة حياتها ضحية للأحكام المسبقة، وللكليشيهات الإعلامية، ولنكران الطرف الآخر، وجودا وحقوقا. تصرّ شيرين ودانييلا على عبور عنق الزجاجة. تتفقان على اللقاء في معبر قلندية، بين القدس ورام الله. تحاول إحداهما العبور باتجاه الأخرى، وإذا فشلت تحاول الثانية، وإذا فشلت هي أيضا تكتفيان بالتلويح لبعضهما عبر الحواجز والأسلاك، ثم تعودان إلى رسائلهما تخترقان بهما جدران العزل. adelk58@hotmail.com