بينما كان يسرد قصة من قصص حياته، الحافلة بالنجاح تلو النجاح، المطعّمة بالألم، المليئة بالأشواك، التي ما كان له أن يتجاوزها لو لم يكن إنساناً ناجحاً بل جباراً، تحدى الصعاب، بكل إيمان وصبر، بدأ جلساؤه ينسلون، واحداً بعد الآخر، ليجدني المستمع الوحيد إليه، بعد حين، صمت برهة، أراد التوقف عن السرد متألماً، فرجوته أن يكمل حديثه لأنني مستعد أن أدفع كل ما أملك مقابل كل دقيقة مع التاريخ الذي يسرده والذي هو خلاصة حياة وتاريخ أجداد يكتب بماء العيون. من أكثر الناجحين في الحياة، أولئك الذين يملكون “مخزن ذاكرة” أو “ذاكرة مختزنة” لتجارب مروا بها هم أنفسهم، من نجاحات وفشل في ماضيهم، وتجارب غيرهم، يجعلون منها بنوك معلومات يستقون منها طرق النجاح، ويتلمسون بها الطريق لذلك النجاح، فمن يعيش بلا ذاكرة تخزين لتجارب الآخرين، لابد أن يتوه عن الطريق الموصل للتميز. كثيراً ما نركل تاريخنا حينما تقدم لنا الخبرات على طبق من ذهب، فنرمي بها، أو نشيح بوجهنا عنها، نلتقي أصحاب الخبرات، في الحياة والعمل، فلا نصغي لما يقولون ويسردون ويقدمون من خبرات هي خلاصة تجارب وعمر حافل بالعطاء والخبرات، ونعدهم مجرد كبار يجترّون قصص حياتهم، وهي مجرد ذكرى لا فائدة من سماعها، فهؤلاء لن يفيدونا بشيء، فعصرهم يختلف عن عصرنا، وما عاشوا فيه، ليس إلا ماض، وما أنجزوه، يكاد لا يذكر، لا يسمن ولا يغني من جوع، بل إن البعض منا يسيء إلى هؤلاء ممن سبقونا في خوض معترك الحياة في زمن الشقاء الحقيقي، والكفاح الممزوج بالعرق والدموع، في زمن كان بلا مكيّفات في أعشاشهم الملأى بالحب والتكاتف، ولكنه بلا جشع، في زمن الاحترام للكبير، صاحب الفضل والخبرة. لم يكن قولهم في الأمثال، “أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة”، و“اللي ما له كبير يشتري له كبير”، أي من ليس لديه كبير في السن يتخذ كبيراً من صديق أو غيره، و”اسأل مجرب ولا تسأل حكيم”، مجرد كلام عابر، إنما ذلك نتاج تجارب إنسانية. من الأنانية والسلبية أن يشعر أبناء الجيل بانقطاعهم عن آبائهم وأجدادهم من الجيل الماضي، وإن كان الأبناء ينعمون بما لم ينعم به آباؤهم وأجدادهم وكبارهم من الذين حرثوا الصحراء، فإنما ذلك ليس بفضل اجتهادهم فقط إنما كان بفضل جهود وخبرات سابقة، لمن مدوا أجسادهم جسراً كي يعبر الأبناء، ومن الجحود إنكار الفضل، وبداية السقوط أن يظن الإنسان أن ما ينعم به، ويتفوق فيه، جاء من الفضاء. Esmaiel.Hasan@admedia.ae