يصطدم الحالم بالمكان، ولكن بعد أن يفوت أوان التراجع. كطارق بعد أن أحرق سفنه، ولا سبيل إلا التأمل فيما جرى، وتذكّر ما كان أملاً. بعد إقامته في أميركا ما يقارب أربعة عقود، وقبيل وفاته تساءل سركون بولص في قصيدة “كرسي القصب”: أينها؟ أين أميركا التي عبرت البحر لآتيها، أنا الحالم؟ هل ستبقى أميركا والت ويتمان حبراً على ورق؟ وفي قصيدة أخرى يحكي اللاجئ ولا يحس بالسيجارة التي تحرق أصابعه مندهشاً أن يكون (هنا) بعد كل تلك (الهُناكات) ـ الموانئ والمحطات ودوريات التفتيش والأوراق المزورة، لكنه في النهاية يظل يحكي لأنه (وصل لكنه لم يذق طعم الوصول). هو الشاعر إذن في هيئة ذلك الحالم والمهاجر، كلاهما يقتسم الصدمة ذاتها، وروحه (التي كدودة القز الصغيرة تزحف نحو انبعاثها في جسد الفراشة)، تعمل كساعي البريد (تستلم رسائل للأهل ولكن أينهم في هذا الليل؟). تلك الصرخات المتأخرة عقودا هي في الأحرى رسالة لما ينتظر الحالم، وهي وصية قيلت بألسنة أخرى من قبل. جبران خليل جبران كمهاجر رائد وحديثه عن العبودية بهيئاتها المتنكرة وسلسلة غليظة تتتابع من التواريخ والجغرافيات. إنما الناس (هنا) عبيد الحياة، من بابل حتى نيويورك ومن الرومان حتى سكان العالم الجديد: المرأة عبدة للرجل والرجل عبد للتاجر والتاجر للحاكم.. وهكذا تكر مسبحة العبودية بلا توقف رغم الأنوار المفترضة في البقاع التي تهاجر إليها الأجساد طلبا للسلامة والعيش. الشعراء هم أكثر الإسفنجات البشرية قابلية لامتصاص الصدمة وخيبة الحلم بعد الوصول، وتمثيل ذلك شعرياً. ويتمان القابع في حلم سركون بولص وقصيدته هو نفسه الماثل في قصيدة أدونيس الطويلة عن نيويورك بعد زيارته الأولى (1971) حيث رمل من البشر والوقت يحدودب وكل جدار مقبرة: (ويتمان لم أرك في منهاتن ورأيت كل شيء. القمر قشرة تقذف من النوافذ، والشمس برتقالة كهربائية) ليست هي النوستالجيا أو الحنين المفرط ومرض الوطن والعودة للبيت وأشيائه، بل هي إشكال معرفي بين صورة المكان في الحلم والذهن، وكينونته على الأرض حين يضج باللغات والوجوه والحجارة. الفاصل بين نوم يؤرقه العنف والدم، وصحو على إيقاع الوهم القائم: وجوه لا تبتسم لقادم ولا تتكلم قسماتها بغير الغرابة من وجودك، ويتقصى الشاعرخطوات ويتمان، وإذ يرى وجه المدينة يشبهه بشباك مغلق يحلم أن يفتحه ويتمان (قصيدة نيويورك: أدونيس) ويفتقد الجسر الذي يصل بين ويتمان وول ستريت، بين ورقة العشب في شعر ويتمان وورقة الدولار في شارع المال. لكن الشاعر الإنسان لا يكف عن الحلم، يحرص أن يرسم صورة المكان كما يريد له أن يكون، مهتديا بخطى أسلافه الشعراء، أصدقاء روحه الذين ـ وياللخيبة ـ يضيعون هم أيضا في المكان فيسحقهم ولا يظل لهم أثر.