يعجبني كل الإعجاب المقطع الذي تبدأ به قصيدة أمل دنقل “سفر ألف دال” وهو عنوان مربك لمن لا يعرف شعر أمل أو يعرفه شخصيًا، فالمقطع الذي أشير إليه هو بداية قصيدة يضعها الشاعر عن نفسه، كأنه يصوغ سيرة شعرية عن ألف الذي هو أمل، ودال الذي هو دنقل وتبدأ القصيدة على النحو التالي: القطارات ترحل فوق قضيبين: ما كان ـ ما سيكون والسماء رماد به صنع الموت قهوته ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات فينسل بين الشرايين والأفئدة رذاذ الغبار على بقعة الضوء أغنية الريح قنطرة النهر سرب العصافير والأعمدة كل شيء يفرّ، فلا الماء تمسكه اليد والحلم لا يتبقى على شرفات العين. هذا المقطع الافتتاحي ينطوي على درجة عالية من الكثافة الشعرية، تختزل الحياة كلها بعامة، وحياة الشاعر الخاصة، ما بين طرفي الوجود والعدم، أو ما بين الثنائية الضدية لفعل الكينونة المنقسم ما بين الماضي والمستقبل، في ثنائية تمتد بامتداد السماء التي صنع بها الموت قهوته، وذرى به الموت في أجوائها كي تتنشقه الكائنات، ويغدو له حال وجوده المنسرب في الشرايين والأفئدة، منتقلا منها إلى كل ما يتحرك في هذا العالم. والنتيجة هي حال من الموجود الموصول بالموت منذ البداية، أو ينسرب فيه الموت كما لو كان يضع بذرة العدم لكي تنبت أصل الشجرة التي يكون مآلها متضمنا في مبتداها، ولا شيء يقيني أو ثابت في هذا العالم، فكل حضور إلى غياب، وكل وجود إلى عدم، وكل ثابت إلى نقيضه الذي يفقده معناه هكذا، يفرّ كل شيء، سرب العصافير، الأعمدة التي لا تبين إلا لكي تختفي، والحلم الذي يبدو كالوهم، ما إن نراه حتى نفقده. وكيف يمكن أن تتحقق الرؤية في كون لا ثبات فيه لشيء، بل كيف يمكن لشيء أن يكتمل نموه وجرثومة العطب في أصل الشجرة، وكيف للشجرة نفسها أن يكتمل إثمارها وهي محكوم عليها بما يشبه الجدب؟ والنتيجة هي تحول الكون المشدود بين الماضي والحاضر إلى كون ينطوي على نقيضه، تماما كما ينطوي الوجود على العدم، والحياة على الموت. والسؤال كيف نواجه هذا العالم، وبأي وسيلة نتصدى للموت الساري في هوائه؟ لا شيء سوى الإبداع الذي هو انتزاع للوجود من العدم، والحضور من الغياب، والولادة من الموت، ولكن في مدى تغدو المحاولة فيه حضورا في ذاتها، والمقاومة رغبة عنيدة في صنع العالم حتى إن لم نستطع إكمال المهمة، فالأهم هو مواصلة المقاومة في امتداد السفر الذي يبدأ بالألف ولا ينتهى بالدال، فالحركة الكونية للوجود الدوار تظل مستمرة ومتواصلة بين نقيضين، ما كان وما سوف يكون، وبينهما يرمي الموت شباكه التي تنسدل على كل شيء منذرة بالنهاية التي هي بداية، أو البداية التي هي نهاية.