في الثالثة والتسعين يسكن العجوز الآن، ليس وحيداً ولا حزيناً، إنه في براح الأسماء الكبيرة في العالم التي أحدثت أثراً غيّر مصير أمة ودفعها كي تكتب مصيراً جديداً وحياة جديدة تستحق أن تعاش، وعندما يحدق في تفاصيل أيامه، بالتأكيد لن يقول إلا أنه سوف يفعل الشيء نفسه. سيقول هذا ولن يدعي مثل الكثير من المتبجحين بانتصاراتهم ومغامراتهم التي في الحقيقة هي فشل ذريع لا يستحق حتى التحدث عنه، مثل الكثير من الجنرالات الذين عاثوا في الأرض فساداً في حقبة، بل حقب من الزمن، تحكموا فيها بالحياة والمصير وقرروا من يعيش ومن يموت، من يرتقي ومن يهبط إلى الدرك الأسفل من الحياة، أولئك الذين يديرون دولاً ويرتكبون كل صنوف التخريب والتفريق ويزرعون الرعب والخوف بدل الشجاعة، يزرعون القمع بدل الحرية، وفي زمنهم يعشش الفساد كالسوس، حتى تنهار أركان سطوتهم وبؤسهم وشدتهم ويتناثرون كالغبار. أو أولئك المتبجحون من البشر المرضى الذين لا يعرفون كيف يرتقون ولا يستطيعون أن يكونوا في المعنى العميق للإنسان، أن يكونوا في المساحة الشاسعة للجمال، يأتون جميهم بلا أدنى ذرة خجل أو خوف أو إحساس بالذنب، ويقولون إذا عاد بهم الزمن سوف يفعلون الشيء نفسه، دون أن يدركوا بأن كل ما فعلوه لا يصلح حتى أن يكون في محرقة التاريخ. ??? سيعيد العجوز التسعيني حياته السابقة وسيعمل من أجل حريته وحرية شعبه وبلاده، سوف يناضل ويرفع صوته عالياً، سوف يدخل زنزانته من جديد ويعيش السبع والعشرين سنة ويحدق من نافذته الوحيدة في فضاء الحرية المفتوح والذي يلوح له دائماً بالأمل واليوم الأجمل والصيت الأكبر والاعتراف، سوف يغني من أجله الجاميكي الأسطوري بوب مارلي (1945 ـ 1981)، سوف يتخلى عن السلاح ويقرر أن يتوقف القتل، سوف يصل إلى تلك الحكمة الكبيرة والعظيمة التي لا يعرفها ولا يقبض عليها إلا أولئك المعتزلة الكبار في تأملهم العميق بالحياة والوجود، سيصل إلى السلام الذي بلغه، حيث جعل تلك العزلة الإجبارية أن تكون له وليست ضده، أن يتنفس الحياة من جديد، ويؤمن ويعتنق المعنى الأعمق في النضال وهو السلام .. هذا ما فعله الكبير نيلسون مانديلا حين خرج وحكم جنوب أفريقيا، رافعاً مبدأ السلام، سلام التعايش والديمقراطية والحرية للجميع، والسير إلى الأمام وقلب الصفحة على كل آلام الفصل العنصري. يجلس العجوز الآن غير نادم، وها هي بلاده تسير نحو مجد يخلق بفعل أبنائه، وها هو العالم احتفل به يوم الثامن عشر من هذا الشهر في ما اصطلح عليه “يوم مانديلا العالمي” للتشجيع على العمل التطوعي، وهو العمل الذي يعد من أرقى وأشرف الأعمال البشرية. يجلس العجوز الآن كأحد البشر المهمين في مسيرة البشرية، مقدماً درساً كبيراً في أن الأهمية تكمن في إحداث التغيير، إحداث الفارق الجميل، الفارق الذي يرتقي بالبشر في محيط شاسع، أو محيط ضيق، فارق يؤسس السلام والمحبة والتآخي، فارق يذهب بالإنسان إلى محبة الحياة، محبة الطبيعة والشعور العميق باليوم واللحظة ونبضات القلب ولهفة الروح للوجود وسعادة العين بمشهد القمر المكتمل وهدير البحر ومجرى النهر، بهجة العقل بالتفكير النير المتطور المرتقي إلى مجد يرفع من شأن الإنسان وإنسانيته. saadjumah@hotmail.com