كانت السيدة ذات الشعر الأحمر تطلق صيحتها المرعبة: “آبراكادابرا”، فيتطاير من بين مخالبها الوزراء والسياسيون ورجال المال والأعمال ونجوم الفن والرياضة والمجتمع. تبدو تلك السيدة، واحدة من الساحرات الشريرات اللواتي طرّزن الحكايات الشعبية الأوروبية في حقبة محاكم التفتيش وما قبلها. تظهر الواحدة منهن، لكي تنفخ كل الشرور مع صيحتها، فتخلع القلوب وربما العقول. لكن أوروبا التي راحت تتحرر من سلطة الكنيسة، وجدت نفسها وهي ترسّخ علمانيتها في حرب ضروس مع الشعوذة وترّاهات الكهنة، تمظهرت في حملة “مطاردة الساحرات”، لتخليص المخيال الشعبي من سلطة العفاريت. ثم أصبحت “مطاردة الساحرات” لاحقاً، باعتبارها عملية بحث عن أشخاص متهمين، تدل على ذعر أخلاقي وهستيريا جماعية وإعدامات بلا محاكمات. ما سبق ليس خلاصة حكاية السيدة الحمراء. بل ربما يكون عكسه هو حكايتها. فالسيدة ريبيكا بروكس الرئيسة التنفيذية المستقيلة من شركة “نيوز إنترناشيونال” التي يملكها إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ ضمن مجموعة “نيوز كورب”، كانت ولسنوات طوال هي الجهة التي تطارد الجميع. تنفث في وجوههم لهب الفضيحة على صفحات جرائد “التابلويد”، التي يسمونها الصحف الصفراء. منذ بدأت حياتها المهنية كسكرتيرة، إلى أن أصبحت رئيسة تحرير للصحيفتين الأكثر توزيعاً في بريطانيا “ذا صن” و”نيوز أوف ذي وورلد” كانت ريبيكا بروكس تعرف أن تطويع الرجال والنساء تكون بتعريتهم أمام الجمهور. وهو ما فعلته بالضبط. فقد تجرأت، مرة، وزيرة في حكومة توني بلير على توجيه انتقاد خافت للصفحة الثالثة في “ذا صن” المخصصة لصورة لامرأة عارية. فوجدت الوزيرة نفسها وسط حملة تشويه وتحقير لعقليتها وجسدها، انتهت بصورة مركبة لجسد عار غير مثير يحمل رأس الوزيرة المسكينة. اتكأت ريبيكا الحمراء على قانون حرية الإعلام البريطاني. وهو قانون منكمش وفضفاض في آن. من حق الصحافي أن ينعت من يشاء بما يشاء. بإمكانك أن تصف رئيس الوزراء بأنه غبي مثلاً، فتلك وجهة نظر تحتمل الجدل. لكن من المستحيل أن تقول إنه سارق من دون وثائق دامغة. لهذا السبب أصبحت صحافة “التابلويد” البريطانية، وأغلبها مملوك من مجموعة مردوخ، بمثابة مدفعية ثقيلة تحرق الأخضر واليابس. وما جرى في الأيام القليلة الماضية التي هزت بريطانيا أصبح معروفاً. أطلقت ريبيكا بروكس صحافيي “نيوز أوف ذو وورلد” للتجسس على خصوصيات الناس الاعتباريين والعاديين. دفعوا رشى لجهاز الشرطة لقاء الحصول على معلومات. تنصتوا على الهواتف. يقال إن عدد الذين اخترقت هواتفهم بلغ عشرات الآلاف. منهم مسؤولون ومشاهير وضحايا اعتداءات، بل إن أحد الصحفيين عبث ببيانات هاتف طفلة خطفت وقتلت، لكي يوهم ذويها بأنها ما زالت على قيد الحياة. فضيحة أخلاقية من العيار الثقيل تهز بريطانيا الآن، انتهت بإغلاق الصحيفة التي يبلغ عمرها 168 عاماً. لكن تلك النهاية، لا تعني وضع حد لانحرافات مهنة عريقة فحسب، بقدر ما تعني إعادة تقويم لما يسمى “ثقافة الفضيحة” في مجتمع يستسيغ التعرية والتهشيم. لقد جعلت الديمقراطيات الغربية، من الصحافة سلطة رابعة حقيقية. تكشف وتخيف وتصحح وتصوّب. يكفي أن صحافيين أميركيين كشفا عام 1974 انحرافات إدارة أميركية وأسقطا رئيساً في فضيحة “ووتر غيت”. لكن الانفلات الرأسمالي اللاحق، وتغوّله، وتملصه من قوانين مكافحة الاحتكار، جعل تركيز السلطة الرابعة في يد شخص واحد، يعرف كيف وأين ومتى يطلق صيحته الشريرة “آبراكادابرا”، أسوأ من تركيز السلطات الثلاث الأولى في يد ديكتاتور مجنون. adelk58@hotmail.com