في صباح الاثنين الموافق العشرين من ربيع أول سنة 1417هـ الخامس من أغسطس سنة 1996 أعلنت محكمة النقض، الدائرة المدنية والتجارية والأحوال الشخصية، في الجلسة العلنية التي انعقدت بمقر المحكمة بمدينة القاهرة، حكمها الذي ينبغى أن يتذكر تاريخه كل المثقفين وأنصار التنوير والممثلين لتيارات الفكر العقلاني والمدافعين عن الدولة المدنية وحرية الفكر والتعبير، ودعاة الاجتهاد في الفكر الديني والمدني على السواء، فهو تاريخ حاسم، يقترن بحكم ضد الاجتهاد في الفكر الديني وحرية الاختلاف في الجامعة، خصوصا بعد أن حكم قاضي النقض بتكفير نصر أبو زيد، والتفرقة بينه وزوجه، فبدا الحكم كأنه انحياز لتيار بعينه من الفكر الديني المتشدد، وتعبير عن كراهية التفكير الجديد في مجال الخطاب الديني، ولكي لا يسيء أحد الفهم، فما أعنيه بالخطاب الديني ليس النصوص الإلهية المقدسة، وإنما هو تأويل وتفسير هذه النصوص من عقول بشرية في نهاية المطاف، عقول تظل معارفها نسبية ومشروطة بزمنها، خصوصا من حيث أدوات إنتاج المعرفة وعلاقات إنتاجها، فهي التي تحدد درجة تسامح العقول أو عدم تسامحها وتشددها في فهم النصوص الدينية بما ينتج خطابا دينيا سمحا، أو خطابا دينيا قائما على التعصب والتشدد، والفارق بين الإثنين يظهر في مدى تقبل الاختلاف في تأويل النص الديني الذي هو حمال أوجه بطبعه. ويرجع تشدد حكم النقض الجائر إلى أنه كفر رجلا مسلما يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويؤمن بالإسلام عقيدة ومنهاجا لا يفارق السماحة العقلية التي جعلت الإمام مالك يقول: “إذا ورد عليك قول من قائل، يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، والإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يحمل على الكفر”. وللأسف، فإن خصوم نصر أبو زيد الفكريين لم يحسنوا الظن باجتهادات الرجل في نقد الخطاب الديني الذي هو خطاب بشري لا قداسة له، ما ظل قابلا للأخذ والرد في حدود نسبيته، ومن هنا أساءوا الظن بما انتهى إليه اجتهاد نصر أبو زيد، ولم يحملوه على محمل حسن الظن، أو التفكير المختلف وليس التفكير المختلف كفرا بالضرورة، وإنما هو اجتهاد يمكن قبوله أو رفضه بالحجة والمجادلة بالتي هي أحسن، وتذكر أن الإسلام أمرنا بالاجتهاد، فمن أخطأ له أجر واحد، ومن أصاب له أجران. ويعني ذلك أن الإسلام احترم حق الخطأ، ولا يزال يثيب عليه في كل أحواله. ولا شك أن احترام حق الخطأ ينتسب إلى نوع آخر من الفكر، ليس هو الفكر الذي دفع قاضي محكمة النقض إلى إصدار حكم بتكفير نصر أبو زيد والتفريق بينه وزوجه، وأصدر حكمه الجائر الذي استنكره كل دعاة حرية الفكر في العالم كله، ولذلك لابد من تذكر يوم صدور هذا الحكم الذي كان بمثابة صدمة للإنسانية كلها.