«يوم الجمعة، يوم الأحد» لمؤلفه الدكتور خالد زيادة، كتاب صغير بحجم كف اليد لكنه جميل جداً، يروي ببساطة سيرة الأمكنة – المنازل والمقاهي والمباني – التي لايعيرها العابرون أي اهتمام، والتي لطالما لعبت أدواراً في الماضي، في الكتاب محاولة لربط الأمكنة بالأفكار والرجال، وتقديمها لأهل المدينة المعاصرة ليكتشفوا من خلالها تاريخهم الذي ربما نسوه في الظاهر لفرط انغماسهم في مدن اليوم المعاصرة والحديثة، لكنهم دون أن يتنبهوا فإنهم لا يتوقفون عن إعادة صياغته في كل لحظة .
دائما كنت أفكر في مدننا الحديثة، شديدة المعاصرة، والتي تخلت في غالبيتها عن معالمها القديمة لتتمكن من ولوج عصر الحداثة وما بعد الحداثة، عصر المباني الزجاجية الضخمة ذات الواجهات المصنوعة من الفولاذ اللامع والزجاج العاكس والسارق لضوء العين، كان السؤال دوما كيف عاشت هذه المدن الفائقة الحداثة عصر ما قبل الكهرباء، وكيف تحمل الناس حرارة الصيف التي لا تطاق وظلام ليالي الشتاء الطويلة ؟ كيف غزت الكهرباء ليالي هذه المدن وكيف سرقت هدوء أحيائها وصمت أزقتها وبيوتاتها الطينية المتواضعة ؟ لقد اعتدنا على الليل الطويل وظلام الشتاء الذي لا ينتهي كما برده القارس الذي لا يطاق، هكذا كانت جدتي تجيبني حين أسألها ولم تختلف إجابات والدتي كذلك .
في كتابه “يوم الجمعة، يوم الأحد” يروي المؤلف كيف عاشت مدينته طرابلس لياليها الطويلة دون كهرباء فيقول “ اعتدنا على الليل يأتي مبكراً بعد غروب الشمس بقليل، ففي الشتاء تهبط الليالي مسرعة بعد عودتنا من المدرسة بوقت قصير، الشتاء حليف الليل دائماً .... عادة ما تعلن المآذن نهاية الليل قبل ساعة أو ساعتين من ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بعد ذلك ثمة حركة أولى تبرز مع أولئك الذين يتركون منازلهم قاصدين المسجد في حدود الرابعة فجراً لتأدية الصلاة، لا يسبقهم سوى عمال الأفران، وعند أول أنوار الصباح يكون المقهى مستعداً لاستقبال زبائنه من عمال مياومين ينتظرون أرزاقهم وحرفيين يستعدون ليوم عمل طويل، وحوالي السادسة يفتح أصحاب الدكاكين أبواب دكاكينهم وسريعاً يسري النهار في جسد المدينة ابتداء من السوق ..”
لقد تسللت الكهرباء – كما يروي الكاتب – إلى فضاء المدينة وبددت جانباً من وحشة الليل، وعلى ضوء المصابيح التي ازدادت توهجاً تسللت الحداثة الغربية إلى الحيز الذي أقامته كسارق، لكن أهالي المدينة استمروا على حذرهم من هذا الحيز الذي ارتبط بممارسات لم يتقبلوها لفترة طويلة من الزمن .. لم يحدث أن وحدت المدينة ليلها، بقي دائماً ليل مضاء للمدينة الحديثة وليل مظلم للمدينة العتيقة، حتى هلت أيام الراديو في أواسط الخمسينيات، لقد كانت أياما حاسمة عملت على فك عزلة المدينة وانطوائها على أخبارها وقصصها، فكسر صوت المذيعين صمت المساءات وبدلت أصوات المطربين والمطربات عادات الليل بشكل حثيث ....
كان راديو والدي أبرز قطع أثاث المنزل وكانت إذاعة صوت العرب ومذيعها الشهير واحدة من أبرز تبدلات ليل المدينة العربية كلها كما رواها لنا أهلنا هنا في الإمارات وكما رواها خالد زيادة في كتابه الآخر «بوابات المدينة والسور الوهمي».


ayya-222@hotmail.com