النخلة نبت الأرض، من سعفها كان السقف، ومن جذعها الوتد، ومن الجريد المنمق طوقت اليافعات حشمتهن، وغفت السواعد السمر بأعواد الحلم على سطح الماء المبلل بالملح. النخلة نبت الأرض “وهزي إليك بجذع النخلة تسّاقط عليك رطباً جنياً”. نحن والنخلة صنوان، نحن ورائحة العذوق، انسجام التاريخ بالتاريخ وتوالي الأزمنة يلون حياتنا بالأخضر اليانع، والظل الظليل، تحته غنى البيدار، وناحت حمائم، وأنشد البلبل، احتفاء بقيظ الرطب، وفصل النجب، وتساقي الأرواح من عيون وفنون، وأتون تنبع بخير الأرض، وفضل النخلة الوارفة الغارفة من صدرها سر الحياة وأصل الحلم. النخلة، هذه الأسطورة التاريخية، عني بها الإنسان، لأنها رعته من لظى وحمته من جوع، فإذا تعسَّرت لقمة كانت التمرة ريقاً يطفئ حريقاً، وإذا ابتسرت سماء كانت السعفة والجذع قامة ووتداً، يمتدان فيمدان فيسدان، ويصدان بقدرة النخلة التي تمنح ولا تكبح، سورة الظهور بأحبال النجاة. النخلة هذه راسخة الجذور، وإن تلونت الأشياء وتحولت، تبقى نبت الأرض، من نخب ترابها ترشف ليحفظ الوجود خلودها، وتبقى هي في الوقت علامة، وشامة، وشهامة، وكرامة، وعلواً يرتفع بهامات الرجال الذين رووا من عرقهم شرايين النخلة، وسيَّجوا من جذعها نخوة الجدران السامقة، ومن سعفها نسجوا “الحصير - والسفرة - والمهف والمكب”، صنعوا أحلامهم من تمر الخنيزي، والخلاص، صنعوا أشياءهم بأيديهم، وبإيعاز من النخلة التي كانت تكنس أحزاناً وأدرانا بـ“عسو”الإرادة، وتمضي بالإنسان، متهجياً “كربها” مستعصياً عذقها، مستفيضاً بالأمل، وهو “يخرف” الأحلام حبة.. حبة.. متطهراً من رهط أو لغط حين تكون النخلة هي العنفوان، وهي أصل الغفران، هي ملاذ الأوابين، وسماء الله العلي القدير، الحارس من كل بأس أو يأس. النخلة هذه نحلة ترفرف بأجنحة السعف الشفيف، وترخي ذيولاً من فرح، وأمل في الصيف المسف حراً، تهفهف على حشيش القلوب، فينمو عشباً أزلياً، يغسل ويكحل ويزمل، ويدلل، ويعلل، ويكيل الرؤوس بظل وأمل، وأمنيات بأن يكون “الدبس” أغزر في عامه من الأعوام التي سبقت. النخلة هذه زرعها الإنسان، فأترعت في الدماء ثقافة وتقليداً، وإرثاً أزلياً، لا يخضه خضيض ولا يرضه رضيض، لأنها نخلة الفؤاد وفرحته ونافلته، وراحلته وقافلته، وقابلته، وحاضره وماضيه ومستقبله.. النخلة هذه تحسو من حساء الزمن، فتتطور نسلاً برعاية المحبين والعاشقين والمخلصين وأصحاب النخوة، الذين يجدون في النخلة سر النقلة من طور إلى طور، والأطوار تتطور، بوعي الذين لا يحرقون المراحل، بل يشعلون القناديل، لأجل أن تضيء الأرض، بالأخضر الوارف، وتستضيء من رياض القلوب الناصعة، والعقول اليافعة والأرواح اليانعة. علي أبو الريش | marafea@emi.ae