قدِم الفرزدق على عمر بن عبدالعزيز، وكان على المدينة والياً من قِبل الوليد بن عبد الملك، فأنزله عمر منزلاً قريباً منه وأكرمه، وأحسن ضيافته، ثم إنه بلغه عنه أنه صاحب فُجور، فبعث إليه عمر بألطافِ مع جارية له، وقال: اغسلي رأسه وألطفيه جُهدك- وأراد بذلك ليعلم حاله. فأتته الجارية، وفعلت ما أمرها به مولاها، ثم قالت له: أما تريد أن تغسل رأسك؟ قال: بلى، فقربت إليه الغِسل، ثم ذهبت لتغسل رأسه، فأقبل عليها، وذلك بعين عمر، وهو يتطلع عليه. ولما خرجت الجارية إلى عمر بعث إليه: أن اخرج عن المدينة، ولئن أخذتُك فيها - ما دام لي سلطان - لأعاقبنك، ونفاه عن المدينة. فلما خرج وصار على راحلته قال: قاتل الله ابن المراغة كأنه كان ينظرُ إليّ حيث يقول: وكنــتَ إذا نزلــت بــدارِ قــومٍ رحلــتَ بخــــــزيَةٍ وتركـتَ عـــارا ثم قدم جرير على عُمر فأنزله في منزل الفرزدق، وبعث إليه بتلك الجارية بعينها، وأمرها أن تفعل بجرير ما فعلت بالفرزدق، فألطفته، وفعلت به مثل ما فعلت بالفرزدق، وقالت له: قُم أيها الشيخ، فاغسِل رأسك، فقام، وقال لها: تنحي عني، قالت له الجارية: سبحان الله! إنما بعثني سيدي لأخدمك، فقال: لا حاجة لي في خدمتك، ثم أخرجها من الحُجرة، وأغلق الباب عليه وائتزر، فغسل رأسه، وعمر ينظر إليه من حين بعث بالجارية إلى أن خرجت من عنده. فلما راح أهل المدينة من منازلهم إلى عمر حدثهم بفِعل الفرزدق وجرير، وما كان من أمرهما، ثم قال: عجبت لقوم يفضلون الفرزدق على جرير مع عفة جرير وفجور الفرزدق، وقلة وَرَعِه وخوفه الله عز وجل! لقب بالفرزدق لجهامة ووجوم في وجهه يكاد لا يفارقه، وقيل لقّب لشبه وجهه بالرغيف المحروق، مدح قومه وفخر بهم، تربى الفرزدق في البادية فاستمد منها فصاحته وطلاقة لسانه، وقد أدخل في الشعر العربي الكثير من الألفاظ الغريبة وبرع في المدح والفخر والهجاء والوصف، يقول أهل اللغة: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث العربية كان مقدماً في الشعراء، وصريحاً جريئاً، ويعود له الفضل في إحياء الكثير من الكلمات العربية التي اندثرت. من قوله: إذا متُّ فابكـيني بـــما أنا أهلـــه فـــكل جمـــيل قلتـه فيّ يصــدقُ وكم قائل مات الفـرزدق والنــدى وقائلــة مــات النــدى والفرزدقُ كان جد الفرزدق يشتري الموؤدات في الجاهلية، ثم أسلم أبوه بعد ظهور الإسلام. رثى جرير الفرزدق رثاءً مؤثراً على الرغم مما كان بينهما من هجاء: لعمري لقد أشجى تميـماً وهدّهــا على نكبات الدهـر مـوت الفرزدقِ عشية راحوا للفــــراق بنعشــــــه إلى ـجدثٍ في هــوة الأرض معمــقِ لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي إلى كل نجـــم في الســــماء محلــقِ ثوى حامل الأثقال عن كل مُغـــرمٍ ودامغ شيطان الغشـوم الســملقِ عماد تميـــــم كلهــــا ولســـانهـا وناطقهـــا البـذاخ في كل منطـقِ فمن لذوي الأرحام بعد ابن غالبٍ لجارٍ وعانٍ في الســـلاسـل موثـــقِ ومن ليتيم بعد مــوت ابـن غالـب وأم عـيــــال ســــاغبـيـن ودردقِ تفتـــح أبـــواب الملــوك لوجهـه بغيـر حجــــاب دونـــه أو تملُــقِ لتبكِ عليه الأنس والجـن إذ ثـوى فتى مُضرٍ في كل غـــربٍ ومشـــرقِ فتىً عاش يبني المجد تسعين حجةً وكان إلى الخيــرات والمجـد يــرتقي فما مات حــــتى لـم يُخلـف وراءه بحيـة وادٍ صولـةً غيـــر مصعـــقٍ. Esmaiel.Hasan@admedia.ae