يحيل الشاعر شربل داغر في عنوان كتابه الشعري الأخير “القصيدة لمن يشتهيها” (بيروت 2010) إلى البيت المنسوب لولّادة: وأمكنُ عاشقي من صحن خدّي وأمنح قبلتي مَن يشتهيها لكن القصيدة ـ كما كانت ولّادة في الأخبار ـ لا تعطي صحن خدها لاشتهاء عابر أو مجاني، بل لمن يُقدم عليها بعدّة وعتاد وصبر ودراية. تلك الإشارة هي الجديد في عمل شربل داغر غير التوجيه الإيروتيكي للصلة بالنص كجسد، ومحبته كمحبوبة ـ وهو ما دعا إليه رولان بارت في “لذة النص” ـ فيقوم بناء عمل كامل على مراقبة القصيدة وهي تتشيأ وتتخلق ثم توجَد خارج نفسها وبعيداً عن خالقها فيخصص داغر كتابه كله ـ النصوص والخاتمة النقدية الأشبه بسيرة ذاتية لفعل القراءة والكتابة ـ لمتابعة القصيدة، بعد أن اتخذ موقعا يحدده النص الأول “دعني على مقربة من الصراخ، لا فيه” ومن هذا الموقع يراقب خطى القصيدة وهي حروف تلفها أيدي قراء الصحيفة العابرين العجلين، أو واقفة وراء المنبر متبرمةً، تُفسد أصابع كتابها وطابعيها وقرائها (لأنها من أخيلةٍ صُنعتْ) فهو عمل ميتا شعري يتموضع فوق ـ وبجانب ووراء ـ القصيدة ككيان، لا كملفوظ توجهه ذات الشاعر لذات القارئ، فيروح مقلبا شؤونها ودلالاتها. القصيدة ليست مناسبَة للبوح فحسب بل هي (شيء) يفكر بنا وبنفسه تجعل الشاعر ينظر إلى يده بعد الفراغ من كتابتها وهي تأسف لما لم يحدث لها، تنظر إليه كما ينظر إليها كنافذتي جارين متقابلين، لا تنسى ولا تباغت أحدا، تتمهل في المجيء متعمدة دلالا وكبرا.. هو تمجيد للقصيدة إذن ووصف لترفعها وعنفوانها، هكذا يتمدد عمل شربل داغر من الوصف إلى المديح: مديح القصيدة كعاشقة متمنعة “عداها لا يعنيها.. لا تنام ولا تواعد أحدا. تتمشى أمام مرآتها.. لعوب وجسورة، لا تعبأ بعشاقها الكُثر.. لا تعطي قبلتها إلا لمن يشتهيها”. كثير من الشعراء تشهى القصيدة وناجاها حتى صوّرها أبو تمام “فرجا ليست خصيصته/ طوال الليالي إلا لمفترعه” لكن محاولة استبطان وجودها مشردةً على سرير شاعر متشرد أو وقوفها في عراء منكشف هو نوع من تدلّه يستبطن حضورها ودلالته في حياة البشر الناطقين بها وتأمل مغزاها لتحصل بعد إطلاقها وأثناءه. ذلك ما يؤكده شربل داغر في نص الختام (أثناء القصيدة) فيلفت إلى ما تحويه طياتها وتضاعيفها، وسيرى القارئ اعترافاتٍ أقرب إلى يوميات الكتابة وتداعياتها، للقصيدة فضيلة جمعها وكونها قاسمها المشترك ومناسبة رصدها “تحملني القصيدة إذ أتعب وتعيد إمساك يدي إن لهوت عنها” وبإشارة معرفية سيكون ثمة وعد: “القصيدة هي لنفسها مرجعها” تقول إحدى اليوميات الختامية، وتمضي في الوعد لتبشر بقصيدة كاللوحة: تقرأ العين شكلَها لا ألفاظها فحسب، فيبتعد عنها الشاعر الخطيب الذي يقرأ خلف الورقة ويلتحم بها الشاعر الصوت حتى في صمته.