خطأ أفلاطون الذي نعنيه هو خطأ فلسفي وإن كان يتعلّق بالشعر. فإنّ هذا الفيلسوف اليوناني القديم الذي كان تلميذاً لأرسطو، أخذ عنه شيئاً من نظرياته، ومن بينها نظريته في الشعر. وقد كتب أرسطو كتاباً في الشعر اعتبره يعتمد على المحاكاة... ولم يكن يوليه كثير اهتمام في نظامه الفلسفي القائم على المنطق الأرسطي وأركانه.. حيث الحكمة والعقل هما الأساس. جاء أفلاطون لينسج على منوال أستاذه في بنائه الفلسفي والسياسي في آن. لقد طَرَد هذا الفيلسوف الشعراء من جمهوريته، ولم يعتبرهم من أركان الجمهورية ولا من الأسس. هذه الجمهورية القائمة على العقل والحكمة.. ويقتضي أن يكون على رأسها فيلسوف، بالمعنى العقلي الأرسطي للحكمة... والحكمة مقرونة بالقوّة.... وقد مرّ زمن طويل على هذه النظرة الأرسطو/ أفلاطونية للشعر وأصله وحقيقته، لكي يجيء فردريك نيتشة في العام 1888م ويكتب كتابه المفصلي المدوّي “أفول الأصنام”، ويرى فيه أنّ مهاجمة النزوات من الجذر هي مهاجمة الحياة من الجذر. واعتبر أن المعادلة الأرسطية الأفلاطونية التالية: (عقل = فضيلة = سعادة) هي معادلة مضحكة وهي تدين في الأساس لسقراط.. ويعتبر نيتشة هؤلاء أمثلة للانحطاط، ويضرب كبيرهم سقراط بمعوله باعتباره على ما يقول “أكثر الدهماء دونية” ومن سماته قبح الهيئة وكل شيء فيه مضخم وكاريكاتوري كالضفدع. لقد انتقم من جميع غرائز الإغريق القدامى بعضلات المنطق...”. ومختصر فكرة نيتشة العبقريّة هو أنّ العالم يقوم على النشوة وليس على العقل. فهو إذن منحاز إلى النشوة الديونيزيسية (نسبة لإله النشوة في الأسطورة الإغريقية القديمة ديونيزيوس) أكثر من انحيازه إلى الفكرة الأبولونية (نسبة لإله القوة والحكمة أبولو في هذه الأساطير). نستطيع أن نضع نقطة على آخر سطر هذه المعركة الفلسفية لننظر إلى حقيقة الشعر بحكم كونه انبثاقاً من جوف الغريزة البشريّة والأحلام البشريّة.. فهو قطعاً ليس بفلسفة ولكنه بالضرورة أصل وأساس كل فلسفة في التاريخ.. مثال واحد يكفي للتدليل على ذلك ولتكن الفلسفة الديونيزيسية نفسها. فأي نشوة عبقريّة هي تلك التي يفجرها أبو نواس شعرياً حين يقول: “أديرا عليَّ الكأس تنكشف البلوى وتَشْتمُّ روحي طيب رائحة الدنيا” أو حين يقول: “إذا مِِتّ فادفني إلى جنب كرمةٍ تروّي عروقي في الظلام عروقها”. أو حين يرى إلى قبره المرجو بأرض قطربّل، حيث معاصر العنب، لكي يصغي وهو في قرارة قبره، لدعس أرجل العصارين للعنب...