أعتقد أن الحب المقرون بالاحترام الذي أحاطني به من حولي هو الذي جعلني أنطوي، دائماً، على شعور بالمسؤولية، وإبداء رأيي ما دمت أعتقد أنه الحق. وكان أول من شجعني على ذلك أساتذتي الذين يندر أن يجود الزمان بمثلهم، ولحسن حظي أنهم كانوا جميعا تلامذة طه حسين الذي كان مدافعا عن حق الاجتهاد الذي يمارسه بنفسه أو يمارسه غيره، منطلقا في ذلك من ليبرالية عميقة، أوقعته في كثير من المعارك. وكانت معركته الأولى عندما مارس حريته في الاجتهاد في دراسته لشعر أبي العلاء المعري، وقد اعترض بعض المحافظين على بعض آرائه، مطالباً بإيقاف معونة الدولة للجامعة التي كانت لا تزال أهلية، فتصدى سعد زغلول للمعترض الأول وكان هذا الاعتراض هو استمرار للأثر الذي تركته حرية رأي طه حسين الطالب الذي صدم أساتذته في الأزهر، فتربصوا منه، وأسقطوه في العالمية، جزاء له، ولكي يكون عبرة لأمثاله، وكانت النتيجة انتقال طه حسين للجامعة المصرية الأهلية، ومن ثم الانتقال من شخصية الشيخ المعمم إلى الأفندي المطربش، الذي لم يكف عن مشاكسة أساتذته في حرية اجتهاده، وأتاح له السفر إلى فرنسا غذاء ثريا لحرية العقل وشجاعة الاجتهاد. ولذلك عاد من فرنسا ليدرس التاريخ بمنهج جديد جسور، وحرية عقلية فنية، وانتقل من قسم التاريخ إلى قسم اللغة العربية الذي أصبح أستاذاً فيه عام 1925 عندما تحوّلت الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية، وأصبح الأمير فؤاد رئيس مجلس إدارة الجامعة السلطانَ فؤاد، ثم ملك مصر سنة 1925 فقام بتحويل الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية، ترعاها الدولة التي أصبح على قمتها. ولم يتردد طه حسين في الدفاع عن حق صديقه علي عبد الرازق في الاجتهاد، حين أقام الدنيا ولم يقعدها بما كتبه في “الإسلام وأصول الحكم” وهو الكتاب الذي أثبت فيه أن الخلافة ليست ركنا من أركان الإسلام، فأطاح بحلم الملك فؤاد في أن يرث الخلافة العثمانية، ويكون خليفة للمسلمين، وأغضب مشايخ الأزهر الذين شجعوا الملك فؤاد على مبتغاه، وكانت النتيجة سحب درجة العالمية من الشيخ الذي أعمل حرية فكره في الاجتهاد، وأوصلته جسارته إلى إنطاق المسكوت عنه من خطاب الاجتهاد الديني. وترتب على سحب العالمية، طرد الرجل من منصبه في القضاء ولم يلبث طه حسين، بعد الدفاع عن صديقه أن أقام الدنيا ولم يقعدها، بعد أشهر معدودة، وذلك حين أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي” في مارس 1926 ووقف طه حسين ثابتا في مواجهة أعاصير الاتهامات العاتية، ونجح في مواجهة العاصفة التي كان لابد أن تنتهي ويخرج منها منتصرا، ويؤسس تقاليد الجسارة الفكرية التي انتقلت من تلامذته إلى جيلي، الذي أرى نفسي فيه حفيد طه حسين ووارث تقاليده في الجسارة الفكرية، التي تجعلني مختلفا عن غيري فيما يتصل بحرية الرأي التي غرسها في أعماقي أساتذتي الذين ورثوها عن طه حسين