يحلو الجلوس على مقاهي الأرصفة المفتوحة، تلك المقاهي التي تميز مدن أوروبا وقراها صيفاً وأحياناً شتاءً، حيث تفتح للجالس فيها فضاء المكان ليطل من حيث يجلس على مشاهد وحكايات كثيرة وأصوات وألوان، فضاء الشارع المقابل للمقهى حيث اخترت ركنك المفضل وجلست، عالم جدير بالتأمل ويستحق الإنصات لكل ما يعبر فيه، لذلك تقرر اليوم أن تجلس بهدوء وبصحبة كتاب وفنجان قهوة تحتسيه على مهل مستمتعاً به أكثر من كونك محتاجاً إليه. تنحني الطرقات كلها هنا شوقاً لبهاء اللون الأخضر، فكل ما يحيطك أخضر ملون وبهي، الطرقات، الجبال، مداخل البيوت التي تذكرك بأغاني فيروز، وشرفات الفنادق الصغيرة المطرزة بأجمل أواني الورد، وتلك المقاهي البسيطة جداً التي لا يمكن أن تفتقدها حتى لو كنت على ارتفاع 3000 متر، كل تلك التفاصيل تملؤك بالراحة والبهجة وتشعرك بأنك تقضي إجازة حلوة يمكن أن تحسد نفسك عليها. الجمال يعلِّم الذوق، والذوق ينتج تفاصيله المبهجة والصغيرة جداً، مقاعد الحدائق الصغيرة، زينة أواني الزرع، سياجات المداخل المنمنمة، أغطية طاولات المقاهي، وسائد الكراسي الضاجة بفراشات وزهور ملونة، محلات التذكارات البسيطة، أشياء لا تحصى تأخذك إليها وتعيدك كطفل مملوء بالدهشة لا أكثر، أنت الذي اعتدت زمناً على افتقاد هذه النعمة، نعمة الوقوف، دهشة أمام أي شيء !! تقرأ في كتاب “النبطي” للمصري يوسف زيدان، فيأخذك إلى عوالمه الخاصة، عالم المخطوطات التي يرأس دائرتها في مكتبة الإسكندرية العريقة، والتي من عجائبها وأسرارها وذخائرها استوحى زيدان رائعته “عزازيل” وها هو يتحفنا مجدداً برواية أخرى تسير على المنوال نفسه حتى وإن طرقت عوالم أكثر فتنة عبر شخصية النبطي والفتاة القبطية مارية، وإذ تقرأ ما بين يديك تشعر بأن الحياة كلها كتاب مفتوح على أغرب الحكايات وألا شيء يولد الغرائبية كهذا الإنسان في كل ما يصدر عنه، وأن الإنسان مهما كان بسيطاً من وجهة نظرك، إلا أنك بمجرد أن تلج عوالمه التي لم يكشفها لأحد، عندها أنصت جيداً، فقد تعثر على حكاية أسطورية بشكل أو بآخر. حيث أجلس، بدا رجل يتوكأ على عكازيه، بعد أن فقد إحدى ساقيه بينما كان أبناؤه يتحلقون حوله وغيمة حزن تخيم على المسافة بينه وبين زوجته، بينما بدا ذلك الشاب وكأنه يتلهى بتقليب صحيفته العربية التي بين يديه دون أدنى شهية للقراءة، في الوقت الذي غابت زوجته عما حولها غائصة في عالم رسائل “البلاك بيري”، أما تلك المرأة باذخة الجمال، فقد بدت بحجابها الأنيق أكثر فتنة من أية امرأة أخرى في المكان، مع ذلك فقد كانت غافلة كلياً عما سببته فتنتها من تأثير على أولئك الشباب الذين تسابقوا في وقت واحد للحصول على المقعد الوحيد الذي بقي خالياً بالقرب منها، تلك الصبية التي لم تترك لوناً إلا وضعته على نفسها، انهمكت بالحديث بصوت عال جداً لفت كل زبائن المقهى بينما لاحت ابتسامة سخرية على طرف بعض الأفواه !! عالم المقهى غني جداً بالحياة والتفاصيل، وإذ تسترخي في مقعدك فأنت بإزاء كتاب مفتوح على عوالم حقيقية تحتاج منك أن تقرأها بقلبك لا بعينيك، وأن لا تكتفي باحتساء فنجان القهوة وتمضي فارغ القلب. ayya-222@hotmail.com