في القديم، حيث الإنسان الأول، وحيث الاكتشافات الأولى للطبيعة ومكنوناتها، عاش الإنسان كما هو بجلده المفتوح على الهواء والبرد والحر، لم يدرك معنى العري ولم يحتمِ منه، عاش حياته في المدى الشاسع للأرض غير مكترث، بل وغير مفكر بمعنى العري .. ومع تبدلات وتطور التفكير البشري، استعان بأوراق الأشجار وأليافها كي يستر عورته، سكن في الكهوف كي يحتمي من البرد والضواري، بنى الأكواخ كملاذٍ وسكينة .. ومع هذا التتابع والتوالي لاكتشاف مشاعره أولاً، وثانياً للطبيعة وخيراتها وشراستها وجنونها ودفئها، للنار والكلام، استُخدِم جلد الحيوان بداية كزي تفنن فيه الإنسان على مدى حضارات عديدة، تنوع واختلف لبسه بين الملوك والرعية، بين الجنود في الحروب، وبين الصيادين في الثلوج، لبسته النساء وصنعت منه تصاميم تنوعت واختلفت حسب الثقافة السائدة في المكان والزمان، لبسه الأطفال أيضاً، وعلى مدى عقود طويلة ظل الجلد هو مصدر الزي وركيزته، واستمر دون أن يغيب عن الحياة على الرغم من كل الاكتشافات الأخرى للزي، وحتى يومنا هذا يبقى للجلديات من الملابس وقع مميز وقيمة خاصة، لها عشاقها ومريدوها وفنانوها ومصمموها وعروض الأزياء الخاصة بها. فمن هناك، من فن استخدام الجلد كملابس، جاء التطور والتفنن في الملبس على مر العصور، وحين دخل القماش على الحياة البشرية، نوع وشكل الزي، انطلاقاً من معطيات ثقافية ودينية؛ ومع تغير وتطور تلك المعطيات تطور الزي وتغير أيضاً، إلا أن القماش بقى الخامة الأكثر انتشاراً واستخداماً بين شعوب الأرض في حياكة الزي، فدخل القماش المذهب والقماش الحرير والقطني، وغيرها من الأنواع المختلفة من القماش. ومن هذا القماش، رسم الفنان لوحاته، أرسل خيوط الفرشاة عليها بألوان زاهية أحياناً، وألوان مستفزة أحياناً أخرى، بأشكال ومناظر مبهرة وكئيبة وحادة، وفي كل ذلك كان القماش المحتوى الأكثر شيوعاً لأفكاره وأحلامه ورؤاه. وبالقماش أيضاً، زين مصمم الأزياء أجساد النساء وخطواتهن، وهن يقطعن “استيج” العرض بتمايل باهر، وبين الفساتين الطويلة والقصيرة وضعهن كقطع فنية، حدد ملامحها بمقصه الدقيق، كي يبرز القماش الجسد، ويبرز نفسه كلوحة معلقة على جسد. وذاته القماش أيضاً، يلف البرودة الأخيرة من أجسادنا وهي تتوارى إلى الأبد عن الأنظار وتغيب في أحضان التراب ولا يبقى منا إلى الرميم. وفي القماش أيضاً، يحاول الكثير من البشر أن يتخفوا، يندسوا، أن يجعلوه زينة تخفي أجسادهم وتخفي أرواحهم، غير مدركين بأن ما يرى من الإنسان ليس زيه، وإنما روحه التي تشع حتى لو غطى الجسد بكومة من صخور الجبال.. الروح والأفكار تشع في الكلام والسلوك والخيال والانتقاء والسمع، ولا يبقى من القماش إلا الزينة، وهي التي تتقنها الذائقة الجميلة. ومن البشر، كثيرون يمرون ولا نرى منهم شيئاً، سواء غطوا كل أجسادهم بالقماش أو نصف أجسادهم، لا نرى منهم شيئاً سوى قطع القماش التي يلبسونها، إنهم يختفون من مساحة البصر والانتباه، إنهم مجرد قماش يمضي إلى سبيله وحسب. سعد جمعة saadj mah@hotmail.com