رحلوا جميعا إلاّه. بقي في تلك الشساعة الفارغة، لا ليدل عليهم، ولكن لكي يبتلعه الفناء. هو “النبطي” يونس، الذي يروي حكايته وقومه يوسف زيدان مرفوعة على لسان مارية المصرية، التي صوّب أهل زوجها من العرب الأنباط اسمها فأصبح ماوية. كتب يوسف زيدان “النبطي” كما فعل في “عزازيل”. غاص عميقا في التاريخ. ذهب أبعد مما دوّنته محفوظات الصدور ونصوص المدوّنين. تقصّى حكايات الأفراد الذين لا يصنعون التاريخ، لكنهم يكونون وقود ناره المستعرة. يختار المؤلف منطقة ومساحة زمنية مهجورة في التاريخ العربي. يروي في سردية لاهثة لا تلتقط أنفاسها، مجريات العشرين سنة التي سبقت الفتح العربي لمصر (640 م). يلتقط حكايات الناس في ظل صراعات الروم والفرس على بلادهم. ثم ينتقل بسلاسة إلى بلاد الأنباط التي امتدت بين جنوب العراق وشمال السعودية والأردن وسيناء. لكن أبعد من السرد، كان زيدان يريد أن يثبت حقائق مهملة في تاريخ المنطقة. منها إن الوجود العربي في مصر سبق الإسلام، عن طريق القوافل والتجارات والتوطن. لذلك فإن خطبة جماعة من الأنباط لمارية المصرية لواحد منهم جاءت في سياق هذا الحضور. وانتقال العروس إلى موطن أهل زوجها جاء ليدل على تمازج فعلي. ولعل تبدل اسم الراوية من مارية إلى ماوية هو تجسيد لتفاعل ثقافتين في شخصية واحدة. جعلنا يوسف زيدان، نستكشف مع ماوية التأسيسات الحضارية للأنباط في المنطقة. قدراتهم العجيبة في العمارة، وفي “استنباط” المياه من قيعان الجبال وتخزين السيول. توسطهم لطرق التجارة باتجاهات الشام والعراق والجزيرة واليمن ومصر. تلقيهم للديانات ونقلها. فسلامة، زوج ماوية، وبعض إخوته كان مسيحيا. شقيقه “الهوديّ” كان تائها بين المذاهب، ثم اراد أن يصبح يهوديا فرفضوه لأن أمه ليست منهم. أمه تعبد اللات. شقيقه “النبطي” كان يعيش في غموض نبوة منتظرة، تفرج عن نفسها بسلوك سام وحكمة فصيحة. في تلك المنطقة التي تتفاعل فيها الأفكار والأحداث، كانت تتردد أصداء ما يجري في الجزيرة. ظهور النبوة. حروب الجاهلية ضد أصحاب الدين الجديد. فتح مكة. حروب المسلمين واليهود. تحالفات ومعاهدات. وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم). حروب الردة. بدايات الفتح... في ظل كل تلك التحولات، بدت الحكاية التاريخية في الرواية حكاية إنسانية بالدرجة الأولى. فالمؤلف، لم يلجأ إلى وثيقة مثبتة، لم يستنطق حدثا مشهورا على وجه التعيين. ابتدع شخوصه من الخيال كما يصرّح في حوار معه، باستثناء أربعة منهم، مروا سراعا في السياق: حاطب بن أبي بلتعة القرشي الذي كان على رأس تجارة من مصر إلى الجزيرة، ومعه شقيقتين قبطيتين إحداهما سوف تصبح زوجة للرسول (صلى الله عليه وسلم). وعمرو بن العاص، وزوجته رائطة التي يسميها “ريطة”. هذا التحرر من صرامة التوثيق، منح للمؤلف رحابة في التسلل الى العوالم الداخلية لشخوصه، من كل أبوابها الرئيسية والفرعية، بلغة شفيفة، ذات حساسية شعرية طاغية. وقد تبدى ذلك، بشكل واضح، في حنو المؤلف على شخصية مارية/ ماوية، الصبية الربيعية التي ساقتها الأقدار من مصر إلى موطن زوج منفر، فعوضت عنه بالإستكشاف، وتخزين عواطف وأشواق ورغبات نحو شقيقه “النبطي”، وشقيقته أيضا. ستحمل مارية أشواقها على كاهلها، في رحلة العودة إلى مصر، مع قومها الأنباط الذين أسلموا وقبائل من اليهود، طلب منهم عمرو بن العاص التمهيد لفتح مصر. وبقي “النبطي” وحيدا في تلك الشساعة الفارغة منتظرا رأفة الفناء... adelk58@hotmail.com