مئات القنوات التلفزيونية تحتل الفضاء الثقافي، تتحارب، تسرب مفاهيم وتهرب قيماً وتعبث بالوجدان الإنساني، تغربل وتسربل وتهول وتطيح وتبيح وتسيح كأنها الماء الفائض من نهر ملوث وتجمع وتسفح وتنطح عقول البشر بشعارات غوغائية وتسير بمشاعر الناس إلى أغوار مدلهمة غائمة، قاتمة والنتيجة عدمية، عبثية لا تسمن ولا تغني من جوع.
الآن أصبح كل دكان أو بقالة يضم قناة تبث سموماً وتنفخ في أوردة الناس هواءها بغباره ونثاره وسعاره الذي لا يتوقف عن الإخلال بقيم المجتمعات وإرثها الحضاري، أصبح الآن لدينا دعاة من كل ملة ونحلة، يخوضون في كل شيء ويغوصون في العميق حتى يلامسوا اللا معقول أو اللامقبول، وبلسان عربي فصيح تندلق اللغة حامية الوطيس تغرق جمراتها المشاعر وتحرق الأكباد، قنوات تستخرج الموت وتحاكم التواريخ على منابر الحاضر، فهذا يشتم، وذاك يلطم، وثالث يختم لجلجته بتجاعيد الجبين وزبد الشفتين، وصراخ ترتج له جدران القلوب وتهتز له الضلوع، ومن يتابع ويشاهد يشعر وكأنه في تظاهرة فوضوية يقودها مساطيل تعفنت رؤوسهم جراء ما أسكرها من وهم وغم وسقم.
عصر الفضاء المفتوح فتح أبواب جهنم أمام المشاهد البسيط وقاده إلى جحيم الشك في كل ما يطرح من سجال بلا عقال، ومن جنوح بلا مكابح، تلجم هذا الطوفان الجارف من الكذب والافتراء، الذي لا تخرج منه إلا إلى اليأس والإحساس بالإحباط من كل أولئك الذين تصدروا المنابر وصادروا الحقيقة، محتلين مساحة واسعة من فراغ المراحل.
من يشهد صولة من صولات فرسان التخريف يشعر أنه فعلاً يعيش مرحلة ما بعد الفراغ الذهني، فمثلاً أصبح اليوم أنواع الزواج من مسيار إلى مخيار إلى مسفار، قضية القضايا للمفكرين والمفسرين والمتأخرين والمتقدمين من رجالات التأويل والتهويل.
نحن في القرن الواحد والعشرين ولا تزال التصنيفات في تفريغ شيطان الجسد مهمة من لا همَّ له غير التعبير عن نوازعه ومركبات نقصه، وتعتلي قمة الهرم العقائدي لدى البعض.. نحن في القرن الواحد والعشرين وما زلنا نبحث عن تفاسير تسمع ولا تكبح.. يتنقلون بنا من رضاعة الكبير إلى رضاعة العجل الصغير، وغداً سوف تطفو على السطح صرعات أو اختراعات جاهلية وكلها تحت غطاء الدين والدين براء منها.
نحن في القرن الواحد والعشرين والقنوات الفضائية تتناسل تباعاً وتتوالد كالفئران منجبة أفكاراً وفتاوى.. نحن في القرن الواحد والعشرين وأحلام بعضنا لم تتجاوز حدود الجسد ولم تتعد أخمص الرغبة.. نحن في القرن الواحد والعشرين فيه بلد صغير كسنغافورة تجاوزنا بمراحل في التطبيب والتعليم وأشياء أخرى لأننا لما نزل بعد نرضع من الفراغ ونسقي جذوعنا من أجاج الأوهام والإيهام وما شابههما من كلام يسقم القلب ويسطو على العقل.


marafea@emi.ae