تساءلت صديقتي عن الزمن إذا ما كان شيئاً حقيقياً ملموساً أم هو مجرد إحساس لا أكثر؟ لم استطع أن أجيبها فقد بدا لي السؤال غريباً بعض الشيء أو أقرب إلى المسائل الفلسفية، لكنني اكتشفت لاحقاً أنها كانت بعيدة جداً عن الفلسفة والجدل وقريبة جداً من مسألة كلنا نمر بها تقريباً، إنها مسألة ضيق الوقت عن استيعاب كل ما نخطط له في يومنا في بعض الأماكن، واتساعه في أماكن أخرى، بحيث يمكننا أن ننجز أشياء كثيرة لا يمكننا إنجازها في أمكنة أخرى.
الزمن مادة ملموسة بالتأكيد نعبر عنها بالوقت وبوحدات قياس محددة ومعروفة، فالسنة والشهر واليوم والساعة والثانية ليست سوى وحدات تقربنا وتقرب لنا مسألة استيعاب الزمن وضبطه وضبط أفعالنا وعلاقاتنا وأعمالنا من خلاله، لكن الزمن الذي نحتاجه لتناول الغداء مع صديق في مدينة مزدحمة وكبيرة ومكتظة، يختلف حتماً عنه في مدينة هادئة لا يتجاوز عدد سكانها 10000 شخص، تتجاور منازلهم وأماكن عملهم ومطاعمهم، ولا يحتاجون إلى أكثر من بضع خطوات بين تلك التفاصيل، ولا شك في أن الزمن في مدينة كفيرونا أو فينيسيا أو لوغانو يختلف جملة وتفصيلاً عن الزمن في بكين والقاهرة ودبي أيام الازدحام والاختناق المروري !!
هذه تفصيلة مهمة لابد من التيقن منها، فالمدن تصنع زمنها، كما تصنع مزاجها وهويتها ونفسيتها، ولا تختلف المدن في شيء قدر اختلافها في طبيعة الزمن فيها، فالوقت قد يمر سريعاً جميلاً مسترسلاً في مدينة ما، كما يمكن للزمن نفسه أن يمر بطيئاً ثقيلاً وكئيباً في مدن أخرى، الزمن كائن مادي فيزيائي لكنه يستحيل إلى قضية نفسية في أحيان كثيرة، ولذلك تجد الكثيرين منا يشعرون بأنهم في المدن الصغيرة الحميمة، التي اعتاد أهلها الحياة بتمهل، يشعرون بالملل أحياناً، بينما يشعر غيرهم أنه لا أجمل من مرور الوقت متمهلاً وببطء !!
في نيويورك يسابقون الثواني ويلهثون خلف كل شيء، فإيقاع الحياة سريع، والموسيقى سريعة وصاخبة، وأنفاس الناس متسارعة، الفن سريع، والسينما «آكشن»، والعلاقات عابرة، والطعام «فاست فود»، بينما في مدينة كفلورنسا مثلا يبدو كل شيء يسير متمهلاً هادئاً وحميماً بطريقة تخطف القلب وتوقف عقارب الزمن، لهذا توقفت عند ملاحظة صديقتي حين قالت لي المدن التي لديها مطبخ متنوع هي في الأصل مدن لديها حياة اجتماعية دافئة قائمة على البيت واجتماع العائلة على موائد الوجبات، كشعوب بلاد الشام والهنود وشعوب شرق آسيا والأتراك والإيرانيين والإيطاليين، هؤلاء من أكثر شعوب الأرض إنتاجاً لأشهى الأطعمة، لأنهم شعوب يحتفون بالوقت الذي تجتمع فيه العائلة حول الطعام، ويعتبرون أحلى الأوقات هي أوقات لمة الأصدقاء وقت تناول الشاي أو القهوة أو على مائدة العشاء أو الغداء، وهنا يختلف الوقت أيضاً عن أناس يتناولون الطعام سريعاً لسد إحساس الجوع لا أكثر.


ayya-222@hotmail.com