الجرأة عكس الجبن، والجريئون هم الذين يقتحمون الأعماق الغائرة، ويغوصون في الأتون، ويقبضون على جمرات الدهشة.. الجريئون هم الذين يقدمون للعالم أجمل الإضاءات في حالك الأزمان والمكان.. ولولا جرأة العلماء لما دق العلم نواقيس الفتوحات.. ولولا جرأة المفكرين والفلاسفة، لما استطاع الناس أن يفكوا طلاسم الحياة.. ولولا الجرأة لما استطاع الشعراء والأدباء أن يغيروا وجه الكون.. لكن عندما يُفهم من الجرأة أنها المغامرة غير المحسوبة، فإن الأمر هنا يستحق التوقف عنده.. ففي الأعمال الفكرية يكون الأمر أكثر دقة وحساسية، لأنها تلمس وجدان الناس، وتتشابك معها، وقد تؤدي إلى تهشيم الواقع الإنساني، ما يجعلها معاول هدم وخراب وتدمير.. في الأعمال الفنية والدرامية يعتقد البعض أن المغامرة جرأة، وأن دق أسافين الخطر طموح إنساني لابد من بلوغه، ما يجعل بعض الأعمال أصابع ديناميت تنفجر في وجوه أناس أبرياء.. بعض الأعمال الدرامية، تجاوزت حدود المنطق، وتعدت الثوابت والبديهيات، إلى درجة أن بعضها صار يمارس الفن كمن يقف في عرض شارع عام، ويبصق في وجوه الناس، ويكيل إليهم السباب.. بعض الأعمال الدرامية تقود الفن والأعراف الاجتماعية إلى الهاوية.. في أحد هذه الأعمال، يدخل الممثل غرفة ابنته التي كانت في حديث ودي وعاطفي مع إحدى صديقاتها.. يقول هذا الممثل لصديقة ابنته: تعالي معي إلى الشقة، هناك سترتاحين وسنقضي سهرة رائعة.. ويغمز لها، ويداعب مشاعرها بحركات لا تليق بممثل، يخرج على شاشة تلفزيونية، تعرض على كل الناس شيباً وشباباً وأطفالاً.. وهناك من اللقطات المؤذية للمشاعر، والتي لا يقصد منها سوى تحريك الغرائز، وجذب المزيد من المشاهدين. نقول بكل صراحة: الحرية، أمر حيوي لا غنى للإنسان عنه وسبب محوري في إنماء العقل، وتفعيل الفكر، والجرأة مقياس لقدرة الإنسان على اقتحام العقبات، ولكن أن يستخدم الفن كوسيلة لتحريك الغرائز فقط، فهذا قمة التخلف، وقمة الفشل في الأداء الفني، وذروة العجز عن تقديم إضافة.. ولو استمر الحال هكذا، فلن نستبعد أن نرى في القريب العاجل مسلسلاً لا يختلف عن الأفلام التي تروجها الصينيات، ويقف بعض العزاب عند النواصي، في انتظار اقتناص إحداهن، لشراء البضاعة المطلوبة.. ما نريده فناً راقياً، يناقش قضايا تمس العقل، وتلامس الوجدان، ما نريده من الفن أن يكون دافعاً قوياً لمزيد من الإبداع والإمتاع.. ما نريده من الفن أن يُحدِّث العقل لا أن يعيده إلى الوراء.. إلى قرون وسطى، غارقة في براثن الغريزة.. الفن المغامر بأحاسيس الناس أشبه بالمفرقعات، تنتهي قيمتها في حينها، ولا يبقى لها أثر في ذاكرة البشر.. شيء كهذا محرقة للفنان ومهلكة للمشاهد. علي أبو الريش | marafea@emi.ae