كنا نتهيأ لكتابة الرسالة، نبدأ باسم الله، ثم نخاطب المرسل إليه بأرقى الأوصاف، ونختار أجمل عبارات المودة والدفء والمحبة مدخلاً، ونحرص على أن تكون لغتنا مهذبة حتى في ذروة الحزن أو الغضب أو العتاب. كنا نحرص على أن يكون الخط جميلاً، ولون الحبر أجمل، نكتب العنوان على الظرف بأناقة ورقة كأننا نعانق الحبيب، وحين كنا نضع الرسالة في البريد، كنا نشعر بأن جزءاً منا سافر إلى الطرف الآخر، القلق والمنتظر والمشتاق، كان ذلك جزءاً من قيمة الاحترام والتقدير، ومن إيقاع أرواحنا وحنان قلوبنا، كان جزءاً من العاطفة وامتداداً للحلم اليومي والرعاية اليومية وتلاحم الأسرة وانسجام أفرادها. نحن لا نتحدث عن عصر خيالي وبعيد، بل عن مرحلة ما قبل عشرين سنة أو أكثر بقليل، حيث بدأت تطالنا ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فدخل الكمبيوتر بيوتنا، ثم الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، فبردت مشاعرنا، وتراجع تضامننا، وذبل دفؤنا، وتمزقت قيمة الاحترام بين الأجيال. ولو عدنا إلى الرسائل، نجد أنها اختفت بشكلها التقليدي من حياتنا، ليحل محلها البريد الإلكتروني، المفترض أن يحمل سمات الرسالة التقليدية، (الموضوع، اسم المرسل إليه، والرسالة، ثم الخاتمة) مع فارق أداة الكتابة، إلا أن كثيرين لا يجيدون استخدام هذه الوسيلة الجميلة السريعة، حاملة الإمكانيات الهائلة، ويتعاملون معها بفجاجة أحيانا، فنرى البعض يرسل لك مرفقاً (صورة أو ملفاً) دون أن يتعب نفسه بكتابة كلمة واحدة، ونرى البعض الآخر يكتب ما يريد قوله في خانة (الموضوع)، والنوع الثالث لا يرهق نفسه في الرد على رسالتك ويعتبرها من باب (عُلم)، وبعض الناس يكتبون بلغة أجنبية متذرعا بـ(هكذا أسهل)، والبعض يكتب بلغة التشات، ويسمح كثيرون لأنفسهم بإرسال بريدك للآخرين، من خلال إرسالهم رسائل جماعية، وهم لا يعلمون أنهم يقتحمون خصوصيتك، أما تجاهل المؤسسات وجهلها بالثقافة الإلكترونية وثقافة التراسل فحدّث ولا حرج، فهم يتركونك تضرب أخماسا بأسداس، حتى يفيض بك الكيل وتتصل هاتفيا للاستفسار عن وصول رسالتك، فيجيبك ببرود مؤذ: (وصل من زماااان!!) أما قضية الرسائل النصية الهاتفية فقد اختصرت كل تقاليد المخاطبة، وتحول الناس إلى (روبوتات) تتحدث بجمل جاهزة، وبلغة أقرب إلى الأمر، ويبدو أنه كلما ضاقت أداة التخاطب فقدنا شيئا من أناقة وإنسانية تواصلنا. كان من المتوقع أن تقوم هذه الوسائل الإلكترونية بتقريب الناس من بعضهم بعضا (بالكلمة على الأقل)، إلا أنها حفرت بينهم حفرا لا حصر لها، حتى باتت الحفر منتشرة في البيت الواحد، بين الأخوة، بين الأب والأم، وبين الأصدقاء، فقد سلبت هذه الأدوات إرادتهم، ليس لأنها سلبية أو مدمرة، بل لأن مستخدميها غير منتجين لها، وغير مدركين لثقافتها ودورها والهدف من صناعتها، وبالتالي، تحولت إلى أدوات تسلية لقتل الوقت. فعلا، لم يبق غير الوقت كي نقتله!! أنور الخطيب akhattib@yahoo.com