خطر في بالي ذات يوم صديق قديم، لم أره منذ أشهر، يبعد عني مئات الكيلومترات، فقررت زيارته فوراً، ولا أدري كيف حزمت أمري وحقائبي، وانطلقت باتجاهه قاطعاً، طريقاً صحراوياً، لتواجهني عاصفة رملية، لم أشهد مثلها في حياتي، بثّت الرعب في قلبي، لكنني واصلت السير بمركبتي التي لا أعرف التصرف حيالها فيما لو تعطلت نتيجة الرمال التي تسفّها سفاً، وبدأت حبّات الرمل تتسلل إلى داخلها، فأنا لا أعرف سوى القيادة، وبدا لي أنني قد ضللت الطريق، فقد قطعت نحو مائتي كيلو متر وحيداً في صحراء مقفرة، لم أر إنساً ولا جناً، أو طيراً، أو أي شيء يدل على الحياة، وواصلت المسير لعلي أهتدي لما يدل على الحياة، فاتصلت مستنجداً بالأصدقاء ممن يعرفون الطريق، وبما أنني فقد الجهات ولم أعد أعرف الشرق من الغرب، نتيجة العاصفة، وجهلي بعلم الفلك والجغرافيا، لم أستطع تحديد مكاني بالضبط، وبالتالي لم يستطع الأصدقاء تقديم يد العون لي، وفي خضم هذه الورطة التي أوقعت نفسي فيها، دون تفكير، دارت في ذهني تساؤلات لم تخطر يوماً في بالي يوماً:كيف كان أهلنا السابقون في الزمن الماضي يتغلبون على قسوة الطبيعة ؟ وكم هي المعاناة التي كانوا يعانونها وهم يقطعون الصحارى في لهيب الصيف، مشياً، أو على جمالهم ودوابهم؟ وكم من الناس ماتوا وانقطعت بهم السبل ودفنتهم الرمال؟ وكيف كان الشعراء يتغنون بهذه الصحراء؟ وترحمت على عنترة العبسي، وقلت: بلا شك أنت فارس، قبل أن تكون شاعراً..كيف كنت تقاتل فيها، وأنا بمركبة مكيّفة مصفحة أرتجف من الخوف! أأموت في هذه الصحراء وحيداً دون أن يدري بي أحد؟ ولاح لي مالك بن الريب يرثيني كما رثى نفسه: تقول ابنتيْ لمّا رأت طـــولَ رحلــتي ســـــــــِفارُكَ هـــذا تاركي لا أبا ليا تذكّرتُ مَنْ يبكــي عليَّ فلــم أجــدْ سـوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا وأشــــقرَ محبوكاً يجـــــرُّ عِنانــــه إلى المــاء لم يترك له الموتُ ساقيا وقد كنتُ عطَّافاً إذا الخيل أدبَـرتْ سريعاً لدى الهيــجا إلى مَنْ دعانيا وقد كنتُ صبّاراً على القِرْنِ في الوغى وعن شَــتْميَ ابنَ العَـمِّ وَالجــارِ وانيا ولا تَنْسَيا عهدي خليليَّ بعـــد مــا تَقَطَّــعُ أوصــالي وتَــــــبلى عِظاميا أقلبُ طرفي حول رحــلي فـــلا أرى به من عيــــون المُؤنســاتِ مُراعيا وبالرمل منّا نســـــوة لو شــَهِدْنَني بَكينَ وفَدَّيــن الطبيــبَ المُداويــا فمنهـــنّ أمي وابنتـــايَ وخالتـــي وباكيةٌ أخــــــرى تَهــيجُ البواكيـــا طبعاً مع عدم المقارنة بيني وبين مالك في الشجاعة والفروسية، فمثلي لا يحسد في ذلك أبداً! وسلّمت أمري إلى الله، لعل لي حسنة تنجيني، أو دعوة أخت لي تستجاب، بما أن لا أب ولا أما يدعوان لي! وكأنني رحت في غفلة أو إغفاءة لا أدري مدتها، وإذ بمركبة تضيء لي من الخلف، فما كان مني إلا أن أسرعت منطلقاً بسرعة جنونية، خاطراً في بالي تحذير أصدقاء لي بألّا أقف في طريق السفر خوفاً من قطّاع الطرق، وبعد أن كنت أطلب بصيص أمل يدل على الحياة أصبحت هارباً منه وأنا لا أدري ذلك،»حلاوة الروح»، جعلتني أنطلق أسابق الريح هرباً وخوفاً، من أين جاءتني هذه الجرأة في السرعة، التي أكرهها بطبعي؟ ولكن سرعتي لم تحل دون اللحاق بي، فقد كانت سيارة الشرطة أسرع! وغداً نكمل الزيارة..