في صحوته ما قبل الأخيرة يكتب بيانه الأخير. بيان يوجهه من خلال أصدقائه إلى الإنسانية جمعاء. إلى كل القراء الذين أحبوه، وأحبوا بلاده من خلال كتبه. يكتب للناس جميعا لكي يقول لهم: شكرا، أحبكم. غابرييل غارثيا ماركيز، في تسعينياته (مولود عام 1927)، ومن فراش مرضه الخبيث، لا يكتب مرثية وإنما يسطّر أحلاما طازجة يريد أن يداعبها في القادم من الأيام. كأنه ينجز “مانيفيستو” يحشد فيه بنود خطة عمل يريد أن ينفذها نيابة عن الآخرين، ويستفزهم لكي ينفذوها معه. ينطلق “غابو” في رسالته إلى أصدقائه من أداة شرط: “لو شاء الله، أن يهبني شيئا من حياة أخرى...”. في لحظاته ما قبل الأخيرة، يستطيع ماركيز إعادة قراءة دروس الحياة، واستنباط معانيها. يقول: “سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه”. بهذه الإشراقة سوف يذهب إلى الحياة، التي تصنع مجد البشر وخذلانهم، وتصعد بهم إلى قمم النجاح وتخسفهم في مهاوي الفشل، وتنتزع منهم دليل وجودهم. ولذلك فإن ماركيز يمنحها ذلك الدليل طائعا راضيا: “سأنام قليلا، وأحلم كثيرا، مدركا أن كل دقيقة نغلق فيها أعيننا، تعني خسارة ستين ثانية من النور”. لذلك لا يعترف صاحب “الحب في زمن الكوليرا” بالعمر. لا يحسبه كما يفعل أولئك الذين ينتظرون النهايات، ويرصدون من أجلها ما تستحقه من خشية وخشوع: “سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق”. أما الموت، هذا القدر المحتوم، فلا ينبغي إلا أن يكون زاوية أخرى للنظر منها إلى الوجود. كوة نتطلع عبرها إلى الحياة. شرفة نشرق من خلالها على الأمل: “الموت، لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان”. يحكي ماركيز عن الموت من مدخل الحياة، فهو اختبره بفجائيته وفجائعيته منذ أن كان طفلا في “أراكتاكا”، التي ستصبح بعد حين “ماكوندو” الأسطورية في “مائة عام من العزلة”. “غابو” الذي تسبب لوالده بخيبة ألم كبيرة لأنه فشل في أن يكون محاميا، وأصبح “قصاصا، يخترع الأكاذيب كما كان في صغره” ـ على حد تعبير الأب ـ يدرك تماما أن رحلة الحياة لا تكون بلا حضور الآخرين ابتداء من الأب: “المولود الجديد، حين يشد على أصبع أبيه للمرة الأولى، فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد”. “تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر، فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف”. يعرف ماركيز، في بيانه الأخير، إنه “يوضب حقائبه” لكي يودع الحياة، لذلك فهو يكثفها في لحظة حب: “لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراك فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعي ولتضرعت إلى الله أن يجعلني حارسا لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها، لقلت “أحبك” ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك”. في هذا “المانيفيستو” الأخير يعلّمنا ماركيز ثقافة الحياة وثقافة الموت أيضا. يقول لنا وهو ذاهب إلى عزلته الأخيرة إن الحياة هي لقية والموت هو رؤية... adelk58@hotmail.com