كان الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا ملء السمع والبصر على امتداد العالم منذ الثمانينيات في القرن الماضي، وكان لفلسفته التي شاع وصفها باصطلاح “التفكيك” أثر السحر على كل المتمردين على البنيوية وسجن النسق والبنية، وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم جاك ديريدا في سنة 1978 في زيارتي الأولى للولايات المتحدة. كانت المناظرات في صف البنيوية ونقضها في ذروتها، وكانت كتب جاك ديريدا مطلب الذين يريدون التمرد على البنيوية ونقضها. وكنا لا نزال قريبي عهد بثورة الطلاب في أواخر الستينيات، وهي الثورة التي قلبت الفكر الأوروبي رأسا على عقب، فأطاحت بالبنيوية التي هتف الطلاب بسقوطها في باريس لأنها تتعالى على التاريخ وتتجاهله فى الوقت الذي تحتجز الظواهر والكائنات في سجن نسق بارد ثابت يعلو على إرادة البشر، ويؤكد نزعا جبريا في حركة التاريخ. وجاءت النزعة النقيضة التي دعا إليها ديريدا خير عون للشباب المتمرد على تحرير الوجود الإنساني الخارج على قوانين السببية، وما يرتبط بذلك من تحرير حركة الدول وانطلاقها، فضلا عن إلغاء ما يسمى مركزية “اللوجوس” وكل بنية مركزية، بل كل مركز ثابت يمارس دور السلطة القاهرة الحاكمة للأطراف، وفي موازاة ذلك ظهر مفهوم الذات الحرة التي تزيح نفسها عن المركز، ولا تسمح لغيرها أن يكون مركزا. وأعاد جاك ديريدا في سياق ذلك كله الاعتبار إلى نيتشه الفيلسوف الألماني الشهير وأفكاره عن نقض السببية. وقد ظهر جاك ديريدا منقذا للبنيوية في مؤتمر عقدته جامعة جونز هوبكنز في السبعينيات، ونشرت أوراق المؤتمر في كتاب بعنوان “مناظرات بنيوية” واشتريت الكتاب من إحدى مكتبات مدينة ماديسون التي زرتها للمرة الأولى عام 1977، وأقمت فيها لعام كامل. الطريف أنني اهتممت بأبحاث رولان بارت وتلميذه تودورف ولوسيان جولدمان وغيرهم من رموز البنيوية اللغوية والبنيوية التوليدية، ولم أفهم بعمق بحث جاك ديريدا، وكان عن البنية والعلامة وخطاب اللعب في العلوم الإنسانية. وكان نقضا لفلسفة المبادئ الأساسية الموجودة في نظرية اللغة عند دي سوسير. وأعترف أني لم أفهم أكثر ما قاله ديريدا في هذا البحث، لكن الكثيرين من حولي كانوا يتحدثون عن ثورته الفكرية ضد البنيوية، ولذلك ما كدت أرى كتابه “في العلامة” مترجما إلى اللغة الإنجليزية بتقديم طويل من الناقدة النسوية جياتري سبيفاك حتى اشتريت الكتاب وسهرت عليه أياما وليال، وفهمت تقديم سبيفاك، وفي ضوئه قرأت الكتاب، وفهمت بعضا مما يريد القول. والحق أني لم أفهم الكثير من أجزاء الكتاب، ولم أشعر باقتراب عقلي من أفكار ديريدا، فقد ظل ذهني أقرب إلى من عرفتهم من البنيويين اللغويين والتوليديين. ويبدو أن العقلانية الصارمة والانضباط المنهجي الذي تقوم عليه البنيوية هو الذي حببني فيها، ويبدو أن هذا هو السبب في ضعف تأثير التفكيك جذريا في حركة النقد الأدبي والفكر في العالم العربي، فنحن أمة لا تزال في حاجة إلى العقل.