في الـزمـن الجميل من العمر، تفاصيـل وحكـايـات ومشـاغبـات، مازالت تسكن الذاكرة التي توشك على عبور الأربعين من العمر والدخول في بهاء الخمسين، تفاصيل تنتمي للمحبة والبراءة والصدق والحميمية الفاتنة والفرح المطلق في دفء الجدة والأم، في قرب أمهاتنا وجداتنا، حيث كل الأمهات هن أمك وكل الجدات هن جدتك، في الفرجان العتيقة والحواري والأزقة المليئة بالأسرار والحكايات، في تلك البيوت المتراصة جدرانها، المفتوحة أبوابها على مصراعيها وعلى الهواء الذي يأتي بحب. طفولة تشرع روحها لفرح يأتي حاملاً دعوة إلى البحر في كل صيف، حيث ننسل بأجسادنا الخفيفة كورقة رسم عليها قلب وكتب عليها شعر عذب، حطت مع النسيم على يد معشوقة تحدق من الباب الموارب في الحبيب الذي مر تواً، ننسل من الزقاق المؤدي تماماً إلى البحر المفتوح على الخليج والمجاور السماء في المدى الأخير من النظر، هناك نرمي بأجسادنا في بهاء الملح، نسبح ونغوص ونلعب بالماء، ونرسم على الساحل خيال الطفولة، نعدو ونقفز وننشد، وفي الرأس دائماً حلم ببلوغ المدى الأخير للبحر، حلم بإنقاذ الشمس من الغرق. ألعاب وأفراح وحكايات في سحر تلك الأيام المليئة بالحركة والتفكير والكلام والتخيل؛ العيون مفتوحة على مدى البصر الشاسع، وطقوس الحياة الاجتماعية تشد من تعاضدنا ومن قربنا، تجرنا حكايات الجدات على “سيم” النوم في بيوت المصيف، إلى إدراك معنى عميق في القيم النبيلة، ونُسلم لجمال السماء بنجومها وقمرها المكتمل إفادتنا وانبهارنا قبل ساعة النوم بجمال الليل. والليل نفسه، يخيفنا حين نعبر بين مزارع النخيل صيفاً، وعندما يحرك الهواء ورقة تثير حكايات الجن فينا، نطلق أرجلنا للريح، مستعينين بضوء القمر، وترعبنا البيوت العتيقة المهجورة دائماً لما أُسكِب عليها من حكايات عن أبواب تفتح لوحدها وعفاريت تخترق الجدران، وعمالقة ينظرون من شبابيكها القريبة من سقف الغرف المطلة على الزقاق. من ذلك العمر الأول، عبرنا إلى الزمن، تعلمنا الكثير، ومن ذلك العمر رسخ فينا سلوك وقيم تنتمي في جلها للمعلمين الأوائل، لرائحة البحر ونشيد النهام وصبر الغواص في الأعماق، لبريق اللؤلؤ وحدة التعب وشدة السواعد على المجاديف، للتفاني وللغيرة والخوف على الأرض، على الحضن الأبدي على اسم الوطن، على الأمل ألا ينكسر وألا نضيع وألا نتخاذل، على أن نصر بأن نبقى بهامة عالية ونفس أبية إلى الأبد. *** في التبدل البشري، تجرفني الرغبة إلى هناك، إلى ما وراء أربعين سنة، فأجد البيوت قد أنهكها الزمن وتجنى الجهل عليها وتبخرت كل الأنفاس وتاه صدى الحياة منها.. إلى هناك أحدق في الأطلال.. في الجدران المتداعية والبيوت التي سويت بالأرض، والخرائب التي بات الغرباء سكانها.. والمسجد العتيق الوحيد الذي ما زال يؤذن، فيما أمواج البحر تعزف اللحن الشجي ذاته. saadjumah@hotmail.com